158
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية
المبحث السابع:الإمام عبد القادر الجيلاني وجهوده في الدعوة الشعبية والإصلاح العام:
تاسعاً :الخطوط العريضة لدعوته الإصلاحية :
1- بدء الدعوة وأسلوبه في ذلك :
يعُيد المؤرخون ظهور عبد القادر إلى عام 521ه/1127م ( ) . والواقع أن عبد القادر بدأ دعوته قبل ذلك، فهو يذكر أنه سبق جلوسه للوعظ فترة التهيؤ النفسي وتشجيع الأصحاب والمحبين وأنه بدأ مجلسه بالرجلين والثلاثة ثم تزاحم الناس حتى صار مجلسه يضم سبعين ألفاً ( ) ، ثم تزايد الإقبال حتى ضاقت المدرسة فخرج إلى سور بغداد بجانب رباطه، وصار الناس يجيئون إليه ويتوب عنده الخلق الكثير ( )، ومنُذ ذلك الوقت بدأ عبد القادر دعوته والتي تميزت بأمور منها :
1- اعتماد التعليم المنظم والتربية الروحية المنظمة : كان الشيخ أبو سعيد المخرمي قد أسس مدرسة صغيرة في باب الأزج (حي من أحياء بغداد) فلما توفي آلت إلى تلميذه عبد القادر الجيلاني فعمد إلى توسيعها وإعادة بنائها، كما أضيف إليها عدد من المنازل والأمكنة التي حولها ولقد بذل الأغنياء في عمارتها أموالهم، وعمل الفقراء فيها بأنفسهم ( ) . وروى لنا المؤرخون - أثناء ذلك - صوراً من البذل والتضحية يكشف عن مدى تعلقَّ الأتباع بالشيخ، من ذلك امرأة فقيرة قررت المساهمة في عمارة المدرسة فلم تجد شيئاً. وكان زوجها من العمال فجاءت إلى الشيخ عبد القادر تصحب زوجها وقالت : هذا زوجي ولي عليه من المهر قدر عشرين دينار ذهباً ولقد وهبت له النصف بشرط أن يعمل في مدرستك بالنصف الباقي، ثم سلمَّت الشيخ خط الاتفاق الذي وقعته مع زوجها، فكان الشيخ يشغله في المدرسة يوماً بلا أجرة يوماً بأجرة، لعلمه أنه فقير لا يملك شيئاً، فلما عمل بخمسة دنانير أخرج له الخط ودفعه له، وقال له : أنت في حِل من الباقي ( ). ولقد اكتمل بناء المدرسة عام 528ه/133م، وصارت منسوبة إلى الشيخ عبد القادر حيث جعلها مركزاً لنشاطات عديدة منها التدريس والافتاء والوعظ ( ) وأما تمويل المدرسة فقد أوقف الأتباع والأغنياء عليها أوقافاً دائمة للصرف على الأساتذة والطلاب ( ). ومنه من أوقف الكتب لمكتبتها ( )، وكان لها خدم مهمتهم العناية بأمورها وخدمة الأساتذة والطلاب ( ).
وكرّس الشيخ عبد القادر معظم أوقاته للمدرسة فكان لا يخرج منها إلا يوم الجمعة إلى المسجد أو الرباط ولقد قام أسلوبه في التدريس والتربية على مراعاة استعدادات كل طالب والصبر عليه، وكان يعتز بمهنة التدريس هذه ويعتبرها " أشرف منقبة وأجل مرتبة. وأن العالم محبوب من أهل الأرض، وأنه سيُميَّزُ يوم القيامة عمن سواه ويعطي درجات أسمى من غيره ( ). لقد أمضى الشيخ عبد القادر في التدريس ثلاثاً وثلاثين سنة بدأها عام 528ه/1133م حتى وفاته عام 561ه/1116م ( ) , ولا تزال المدرسة باقية إلى اليوم ( ) ولها مكتبة فيها مخطوطات شهيرة وتعرف باسم المكتبة القادرية ( ) ، والواقع أن التحليل الدقيق للنظام التربوي الذي طبقه عبد القادر، يكشف عن تأثر كبير بالمنهاج الذي اقترحه الغزالي، فقد وضع الشيخ عبد القادر منهاجاً متكاملاً يستهدف إعداد الطلبة والمريدين علمياً وروحياً واجتماعياً ويؤهلهم لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كذلك توفر لهذا المنهاج فرص التطبيق العملي في الرباط المعروف باسم الشيخ عبد القادر حيث كانت تجري التطبيقات التربوية والدروس والممارسات الصوفية ويقيم الطلبة والمريدون ( ) ، وإليك تفاصيل البرنامج المذكور.
أ - الإعداد الديني والثقافي :
يتحدد هذا الإعداد بحسب عمر الطالب أو المريد وحاله، فإذا كان ممن يقصدون تصحيح العبادة كالكبار من الناس والعامه درسه الشيخ عقيدة أهل السنة وفقه العبادات اللذين تضمنهما كتابه " الغنية لطالبي طريق الحق " الذي صنّفه على طريقة كتاب " إحياء علوم الدين للغزالي " واقتفى الموضوعات نفسها التي عالجها الغزالي في كتابه المذكور. ويضاف إلى ذلك دراسات تستهدف إعداد النابة من الدارسين ليكون داعية بين الناس مثل أهيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووسائله وأساليبه، ودراسات في المذاهب الفكرية المعاصرة والفرق السائدة ( ) بالإضافة إلى التدريب على الوعظ والخطابة والتدريس ( ) وأما إذا كان الدارس طالباً من طلبة المدرسة، فإنه يتلقى إعداداً أوسع يتضمن حوالي ثلاثة عشر علماً تشمل على التفسير والحديث والفقه الحنبلي، والخلاف والأصول والنحو والقراءات بالإضافة إلى ما سبق ذكره، على أنه كان يستبعد علم الكلام والفلسفة وينهى عن مطالعة كتبها السائدة ( ) ، وكان الجمع بين الفقه والتصوف السني شرطاً أساسياً للمريدين، فقد روى ابن تيمية - في مجلدي التصوف وعلم السلوك - من الفتاوى كيفية تقيد منهج عبدالقادر بالأصول الواردة في القرآن الكريم والسنة والتزامه تزكية النفس في منهاجه التربوي ( ).
ب- الإعداد الروحي :
يستهدف الإعداد الروحي تربية إرادة المتعلم أو المريد حتى يصبح صفاء بلا كدر ويصير مع النبي صلى الله عليه وسلم في عقله ومشاعره ومعناه ويكون دليل قدوته ( ).
ولكي يصل المتعلم إلى ذلك، عليه أن يلتزم السنة في كل شيء وأن يتصف بصفات أساسها المجاهدة والتحلي بأعمال أولي العزم وقد بينت تلك الصفات عند حديثي عن موقفه من العلم والعمل. وكان يرافق الممارسات العملية التي دعا إليها الشيخ دراسات نظرية حول مقصود المجاهدات والعبادات التي يمارسها المريد في حياته اليومية وبذلك أقام التزكية الروحية على قاعدة فكرية تستهدف إقناع المريد بما يمارسه فكان هناك دراسات حوال الأوراد والأذكار ( ) ، ودراسات عن التقوى والورع، ودراسات عن أحوال النفس ومداخل الشيطان ودراسات عن الأخلاق التي يجب أن يكون المريد عليها ويحتوي كتاباً (الغنية) " وفتوح الغيب" فصولاً مطولة مما اعتمده الشيخ عبد القادر في ذلك ( ).
ج- الإعداد الاجتماعي :
ويستهدف هذا الإعداد توثيق العلاقات بين الأفراد والجماعات والقضاء على أسباب التفكك الاجتماعي الذي ساد المجتمع في عصره والميدان الذي كان يتم به هذا الإعداد هو المدرسة القادرية نفسها حيث يتدرب المريد على ما يجب أن يتحلى به الفرد خارج المدرسة في المجتمع الكبير. ويشمل هذا الإعداد تنظيم حياة المريد الخاصة؛ وعلاقات المريدين بالقيادة المتمثلة بالشيخ؛ وعلاقاتهم ببعضهم البعض؛ وعلاقاتهم بالمجتمع المحيط، أما عن حياة المريد الخاصة، فقد حدد المنهاج القادري آداباً تنظم دقائق السلوك اليومي للفرد كاللباس والنوم والدخول والخروج والزينة والجلوس والسير والطعام والشراب، ومعاملة الزوجة والأبناء والوالدين، والإقامة والسفر، وفي جميع هذه الآداب يسترشد بما ورد في السنة النبوية. كذلك حرص الشيخ عبد القادر أن يبتعد بالمريد عن كل ما ينزل من مكانته الاجتماعية كالبطالة والعيش على هبات المحسنين، وسؤال الناس، وحثه على الاشتغال بالكسب والتجارة مع مراعاة قواعد الأخلاق والأمانة ( ). وأما عن تنظيم علاقة المريد والطالب بالشيخ، فقد أوجب عبد القادر على المريد طاعة الشيخ في الظاهر والباطن وأن لا ينقطع عنه وأن يستشيره في جميع شؤونه وفي المقابل أوجب على الشيخ أن يعامل مريديه بالحكمة والشفقة، وأن يؤدبهم ابتغاء مرضاة الله، وأن يكون لهم ملجأ وسنداً وراعياً فإذا لم يكن في هذه المنزلة فليترك شيخه وليعد إلى شيخ يؤدبه ( ) . وحدد القاعدة التي يعتمدها المريد في صحبة الأغنياء والفقراء بما يلي : أن تصحب الأغنياء بالتعزز والفقراء بالتذلل ... وعليك بصحبة الفقراء والتواضع وحسن الأدب والسخاء .. وعلى المريد أن يحذر من الضعف أمام عطاء الأغنياء، أو يطمع بنوالهم، لأن تملقهم من أخطر الأمور على دين المرء وعلى خلقه. شريطة أن لا يحقد عليهم، وأن يحسن الظن بهم وأن لا يتعالى عليهم ( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق