152
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية
المبحث السابع:الإمام عبد القادر الجيلاني وجهوده في الدعوة الشعبية والإصلاح العام:
سابعاً:الأحوال والمقامات:
3- التوكل :
تناول الشيخ عبد القادر الجيلاني مسألة التوكل وتعَّرض لأربع مسائل.
المسألة الاولى :الأصل في مشروعيته وتعريف حقيقته :
فقال : الأصل فيه قوله تعالى : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " الطلاق ، آية 3) وقوله عز وجل : " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " (المائدة، آية : 23). وحقيقته تفويض الأمور إلى الله عز وجل والتنقي من ظلمات الاختيار والتدبير والترقي إلى ساحات شهود الأحكام والتقدير فيقطع العبد ألاَّ تبديل للقسمة فما قسم له لا يفوته ومالم يقَّدر له لا يناله فيسكن قلبه إلى ذلك ويطمئن إلى وعد مولاه ( ).
المسألة الثانية : أقسام التوكل ودرجاته :
يرى الشيخ عبد القادر الجيلاني أن التوكل ينقسم إلى ثلاث درجات التوكل ثم التسليم ثم التفويض : فالمتوكل يسكن إلى وعد ربه وصاحب التسليم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضى بحكمه ( ) ولكن ابن القيم يرى أن التوكل ينقسم إلى سبع درجات :
الأولى : معرفة الرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه صدورها عن مشيئته وقدرته وهي أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.
الثانية : إثبات الأسباب والمسببات.
الثالثة : رسوخ القلب في مقام توحيد المتوكل فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، بل حقيقة التوكل توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكل معلول مدخول وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل، فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة ومن هنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلاَّ برفض الأسباب وهذا حق لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح.
الرابعة : اعتماد القلب على الله واستناده وسكونه إليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها علامة هذا ألا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه عند إدبار ما يحب وإقبال ما يكره منها لأن اعتماده على الله وسكونه إليه ومثل حاله كحال الطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره وليس في قلبه التفات إلى غيره. كذلك المتوكل لا يأوي إلاَّ إلى ربه سبحانه.
الخامسة : حسن الظن بالله عز وجل، فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه، ولذلك فسّر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله والتحقيق أن حسن الظن بالله يدعو إلى التوكل عليه، إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه.
السادسة : استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه ولهذا فسَّره من قال : أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير.
السابعة : التفويض وهو روح التوكل ولبُّه وحقيقته وهو إلقاء أموره كلها إلى الله وإنزالها به طلباً، واختياراً لا كرها واضطراراً، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه وتمام كفايته وحسن تدبيره، فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويض أموره كلها إلى أبيه ( ).
المسألة الثالثة : ثمرات التوكل :
ويرى الشيخ عبد القادر الجيلاني أن للتوكل ثمرات فقد قال : من أحب القوة في دين الله عز وجل فليتوكل على الله عز وجل لأن التوكل يصحح القلب ويقويه ويهذبه ويهديه ويريه العجائب لا تتوكل على درهمك، ودينارك وأسبابك فإن ذلك يعجزك ويضعفك وتوكل على الله عز وجل، فإنه يقويك ويعينك ويلطف بك ويفتح لك من حيث لا تحتسب ( ) . وهذا ما أكَّده شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو يوضح معنى ما نقل عن الشيخ عبد القادر الجيلاني من أنه رؤي في المنام وهو يقول إخباراً عن الحق سبحانه : من جاءنا تلقيناه من البعيد، ومن تصرف بحولنا ألنَّا له الحديد، ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد، ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد. فقال فالأوَّلتان : العبادة والاستعانة، والآخرتان الطاعة والمعصية. فالذهاب إلى الله هي عبادته وحده كما قال تعالى : في الحديث القدسي : من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ( ) والتقرب بحوله هو الاستعانة والتوكل عليه فإنه لا حول ولا قوة إلاَّ بالله وفي الأثر : من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ( ). وعن سعيد بن جبير قال التوكل جماع الإيمان ( ) ، وقال تعالى " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " (الطلاق ، آية : 3) .... وقوله : ومن اتبع مرادنا يعني المراد الشرعي،كقوله تعالى : " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (البقرة ، آية : 185) وقال تعالى : ( يريد الله أن يخفف عنكم " (النساء، آية : 28) وقوله تعالى : " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتُم نعمته عليكم " (المائدة آية : 6) ... وفي الحديث الصحيح : لئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ( ) . وقال تعالى : " ويستحيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله " (الشورى ، آية ك 26) وقوله : ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد يعني : ترك ما كره الله من المحرم والمكروه لأجل الله؛ رجاءاً ومحبة وخشية أعطيناه فوق المزيد لأن هذا مقام الصبر ( ) وقد قال الله تعالى : " إنّما يُوَفى الصابرون أجرهم بغير حساب " (الزمر ، الآية : 10).
المسألة الرابعة : الأسباب :
بين الشيخ عبد القادر الجيلاني اعتقاده حولها والمتضمن ضرورة الأخذ بها مع عدم الاعتماد عليها فقال : اعتقاد المتبعين لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم : أن السيف لا يقطع بطبعه بل الله عز وجل يقطع به وأن النار لا تحرق بطبعها بل الله عز وجل المحرق بها وأن الطعام لا يشبع بطبعه بل الله عز وجل يشبع به وأن الماء لا يروي بطبعه بل الله عز وجل المروي به. وهكذا جميع الأسباب على اختلاف أجناسها الله عز وجل المتصرف فيها وبها وهي آلة بين يديه يفعل ما يشاء ( )، وهذا لا يعني دعوته إلى ترك الأسباب أو أن هناك تعارضاً بين التوكل والأخذ بالأسباب، بل إن التوكل الصحيح في مفهوم الشيخ الجيلاني هو الأخذ بالسبب والتوكل على مسبب الأسباب إذ يقول في هذا الصدد : إعط نفسك في بحر التوكل فتجمع بين السبب والمسبب ( ) .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق