128
دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الرابع
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
المبحث الثالث : الإمام أبو الحسن الأشعري :
ثالثاً : سّر عظمة الأشعري في التاريخ :
نهض أبو الحسن الأشعري بعد هذا التحول العظيم، يدعو إلى عقيدة أهل السنة، ويدافع عنها في حماسة وإيمان، ويرد على المعتزلة ويتبَّعهم في مجالسهم ومراكزهم يحاول إقناعهم بما اقتنع به أخيراً من عقائد أهل السنة، ومذاهب السلف، وكان نشاطه في ذلك أعظم من نشاطه في السابق، وكان يقصدهم بنفسه يناظرهم، فكُلَّم في ذلك فقال وقيل له : كيف تُخالط أهل البدع وتقصُدهم بنفسك وقد أمرت بهجرهم ؟ فقال : هم أولو رياسة، منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إليَّ،
فإذا كانوا هم لا ينزلون إلي، ولا أسير أنا إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن لأهل السنة ناصراً
بالحجة ؟ وهذا الجهود العظيمة والمثابرة الصابرة في مناصرة مذهب أهل السنة تستحق الثناء والتقدير.
وكان أبو الحسن الأشعري مستواه العقلي أعلى من مستوى معاصريه وأقرانه، وكان صاحب نبوغ وابتكار في العقليات وكان يرد على حُجج المعتزلة وعقائدهم في سهولة وينقُضها بمقدرة وثقة، كما يرد الأستاذ الكبير على شبه تلاميذه، ويحل مشاكلهم، وقد كان أبو الحسن الأشعري إماماً مجتهداً في علم الكلام، وأحد مؤسسيه وقد خضع كلُّ من جاء بعده من المتكلمين لعبقريته، وعمق كلامه، ودقة نظره وإصابة فكره .
1-أبو الحسن الأشعري يشرح عقيدته التي يدين بها : فيقول : وقولنا الذي نقول به، وديانتنا التي نَدين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وبسنة نبينا عليه السلام، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل – نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته – قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ورفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشَكَ الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مُقَدَّم، وخليل معظم مضَّخم . ولم تقتصر خدمة الأشعري على تأييد عقائد أهل السنة والسلف تأييداً إجمالياً، فقد كان الحنابلة والمحدثون قائمين به غير مقصَّرين فيه، إن عبقريته تتجلى في أنه أقام البراهين والدلائل العقلية والكلامية على هذه العقائد، وناقش المعتزلة والمتفلسفة عقيدة عقيدة، وذلك كله في لغة يفهمونها، وأسلوب يألفونه ويُجلونه وبذلك أثبت أن هذا الدين وعقيدته الواضحة مؤيَّدان بالعقل، وأن العقل الصحيح يؤيد الدين الصريح، ولا صراع بينهما ولا تناقض.
2-مصدر العقيدة عن أبي الحسن الأشعري : كان الأشعري مؤمناً بأن مصدر العقيدة والمسائل التي تتصل بالإلهيات وما وراء الطبيعية هو الكتاب والسنة، وما جاء به الأنبياء وليس العقل المجرد والمقياس والميتافيزيقا اليونانية، ولكنه لم يكن يرى السكوت والإعراض عن المباحث التي حدثت بتطورات الزمان، واختلاط هذه الأمة بالأمم والديانات والفلسفات الأجنبية، حتى تكونت على أساسها فرق ونحل، وكان يرى أن السكوت عن هذه المباحث يضُّر بالإسلام، يُفقد مهابة السنة ويحمل على ذلك ضعف السنة العلمي والعقلي، وعجز علماء الدين وممثليه عن مواجهة هذه التيارات ومقاومة هذه الهجمات، ويهَتبلهُ أهل الفرق الضالة، فينفذون في أهل السنة والعقيدة الصحيحة، فينفُثون سمومَهم فيهم، ويزرعون الشكوك، ويستميلون شبابهم الذكي المثقف إلى أنفسهم، وكان الأشعري مؤمناً بأن مصدر العقيدة هو الوحي والنبوة المحمدية، والطريق إلى معرفته هو الكتاب والسنة وما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم، وهذا مُفترق الطريق بينه وبين المعتزلة، فإنه يتجه في ذلك إتجاهاً معارضاً لإتجاه المعتزلة، ولكنه رغم ذلك يعتقد مخلصاً أن الدفاع عن هذه العقيدة السليمة، وغَرسها في قلب الجيل الإسلامي الجديد، يحتاج إلى الحديث بلغة العصير العلمية السائدة، واستعمال المصلطحات العلمية، ومناقشة المعارضين على أسلوبهم العقلي، ولم يكن يسوغ ذلك، بل يَعدُّه أفضل الجهاد وأعظم القربان في ذلك العصر، وهذا مفترق الطرق بينه وبين – بعض – من الحنابلة والمحَّدثين الذين كانوا يتأثمون ويتحرجون من النزول إلى هذا المستوى .
3-العلاقة بين العقليات والحِسَّيات والعقيدة والديانات : كان يعتقد أن المباحث التي تتصل بالعقليات والِحسيَّات لا صلة لها في الحقيقة بالعقيدة والديانات، ولكنَّ المعتزلة والفلاسفة مزجوا البحث في العقيدة والبحث فيها، بل جعلوها بذلاقة لسانهم وذكائهم مقدمات للبحث في الدين، بل فارقاً بين الحق والباطل، وكان الأشعري يعتقد أن الفرار من البحث فيها، بحجة أنها لا تتصل بالدين والعقيدة لا يصُّح، بل بالعكس من ذلك، يجب على من قام لنُصرة السنة أن يواجههم فيها ويثبت مذهب أهل الحق، وكان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يسكتوا عن هذه المسائل جهلاً، بل لأن هذه المسائل ما نشأت في عصرهم، ولم تمسَّ الحاجة إلى البحث فيها شأن الفقه والجزئيات الكثيرة التي حدثت بعد عصرهم فتأمل فيها الفقهاء والمجتهدون، وأبدوا رأيهم فيها، واستنبطوا وفرَّعوا وحلوا المشاكل الجديدة، وبذلك عصموا الأمة والجيل الجديد عن الإلحاد الفوضى في العمل والتعطل، كذلك يجب على حراس الشريعة، ومتكلمي أهل السنة، أن يُواجهوا الأسئلة الجديدة التي أثارها المعتزلة والمتفلسفة في موضوع الإلهيات، ويُجيبوا عن الاعتراضات والمطاعن التي يوُجهها إلى أهل السنة ومُطابقتها للعقل والمنطق، وقد ألف في هذا الموضوع رسالة أسماها : استحسان الخوض في الكلام، وقد سار الأشعري في طريقه مجاهداً، ومناضلاً، منتجاً، معرضاً عن سخط – المعارضين – لا يعبأ بما يقال فيه مؤمناً بأنه هو الذي ينفع الدين في عصره ويرد إلى الشريعة الإسلامية مهابتها وكرامتها ويحرس للناشئة دينها وعقيدتها، حتى استطاع بعمله المتواصل، وشخصَّيته القوية وعقله الكبير، وإخلاصه النادر، أن يردَّ سيل الاعتزال والتفلسف الجارف الذي كان يتهدد الدين، ويثبت كثيراً من الذين تزلزلت أقدامهم، واضطربت عقولهم وعقيدتهم، وأن يوُجد في أهل السنة ثقة جديدة بعقيدتهم، نشاطاً جديداً في دعوتهم وزالت سطوة المعتزلة على العقول والأفكار، واشتغلوا بالدفاع عن الهجوم وتعرضت حركة الاعتزال ودعوتها للخطر، وقد خمدوا وانطفؤوا بمعارضة أمام كبير، كأبي الحسن الأشعري .
4-اجتماع أهل السنة على المعتزلة وأهل البدع : دخل أهل السنة والجماعة في صراع جدلي عنيف في القرنين الثاني والثالث مع المخالفين الذين شذوا عن منهج الحق وقد اشتهر أهل السنة آنذاك بالانتساب إلى الحديث النبوي، فكانوا يسمّون " أهل الحديث " ولما برز الإمام أحمد بن حنبل في الدفاع عن السنة نُسب أهل السنة إليه فكانوا يسمَّون " الحنابلة " وقد ظلت المعارك الجدلية قائمة بين علماء السنة ومخالفيهم من المعتزلة والجهمية وتقوى علماء السنة بانضمام أبي الحسن الأشعري إليهم وكان دفاعه عن الكتاب والسنة وردُّه القوي على المعتزلة والجهمية سبب في مكانته المرموقة عند أهل الحديث وقد سُميَّ أتباع أبو الحسن الأشعري بالأشاعرة وظل الوئام بين أهل الحديث وبين الأشاعرة، وأصبحوا جميعاً ضد المعتزلة ونحوهم وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية : والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون من القياس العقلي – فرع عليهم، وإنما وقعت الفرقة بسبب فتنة القشيري ، وكان من أكبر المنظرين لطريقة أبي الحسن الأشعري فيمن بعده أبو بكر الباقلاني، الإمام العلامة، أوحد المتكلمين، مقدَّم الأصوليين، القاضي أبو بكر، محمد بن الطيب الباقلاني، صاحب التصانيف وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه ، وكان ثقة إماماً بارعاً، صنّف في الرَّدَّ على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمَّية والكرَّامية وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق فإنه من نظرائه، وقد أخذ علم النظر عن أصحابه ، وقد ذكره القاضي عياض في طبقات المالكية، فقال : هو الملقب بسيف السنة، ولسان الأمة، المتكلم على لسان أهل الحديث، وطريق أبي الحسن، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان له بجامع البصرة حلقة عظيمة ، وقد سار القاضي رسولاً عن أمير المؤمنين إلى طاغية الروم، وجرت له أمور، منها أن الملك أدخله عليه من باب خوخة ليدخل راكعاً للملك ففطِن لها القاضي ودخل بظهره ، ومنها أنه قال لراهبهم : كيف الأهل والأولاد فقال الملك : مه : أما علمت أنّ الراهب يتنزه عن هذا ؟ فقال : تُتزَّهونه عن هذا، ولا تُنزَّهون ربَّ العالمين عن الصاحبة والولد ، وقيل : إنّ الطاغية سأله : كيف جرى لزوجة نبَّيكم – يقصد توبيخاً – فقال : كما جرى لمريم بنت عمران، وبَّرأهما الله، لكنَّ عائشة لم تأت بولد، فأفحمه ، وكان الحافظ الدارقطن يحترمه ويقدره، فعن أبي ذر الهروي
قال : إني كنت ماشياً ببغداد مع الحافظ الدراقطني، فلقينا أبا بكر بن الطيب فالتزمه الشيخ أبو الحسن وقبَّل وجهه وعينيه، فلما فارقناه، قلت له : من هذا الذي صنعت به ما لم اعتقد أنَّك تصنعه وأنت إمام وقتك ؟ فقال : هذا إمام المسلمين، والذَّاب عن الَدَّين هذا القاضي أبو بكر محمد بن الطيب . قال الذهبي هو الذي كان ببغداد يناظر عن السنة وطريقة الحديث بالجدل والبرهان وبالحضرة رؤوس المعتزلة والرافضة والقدريَّة وألون البدع، ولهم دولة وظهور بالدولة البويهية، وكان يُردُّ على الكرّامية، وينصر الحنابلة عليهم، وبينه وبين أهل الحديث عامِرٌ، وإن كانوا قد يختلفون في مسائل دقيقة فلهذا عامله الدارقطني بالاحترام، وقد ألف كتاباً سمَّاه الإبانة، يقول فيه : فإن قيل، فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً ؟ قال : قوله " ويبقى وجه ربك " (الرحمن آية: 27) وقوله : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديَّ " (ص : 75) فأثبت تعالى لنفسه وجهاً ويداً. إلى أن قال : فإن قيل : فهل تقولون : إنَّه في كل مكان ؟ قيل : معاذ الله، بل هو مستوٍ على عرشه كما أخبر في كتابه. إلى أن قال : وصفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والوجه واليدان والعينان والغضب والرضى. فهذا نصّ كلامه . وقال نحوه في كتاب " التمهيد " له وفي كتاب " الذَّبَّ عن الأشعريَّ ". وقال : قد بَيَّنَّا دين الأمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير . قال الذهبي : فهذا المنهج هو طريقة السلف، وهو الذي أوضحه أبو الحسن وأصحابه، وهو التسليم لنصوص الكتاب والسُّنَّة، وبه قال ابن الباقلاني وابن فورك، والكبار إلى زمن أبي المعالي، ثم زمن الشيخ أبي حامد – يقصد الغزالي – فوقع اختلاف وألوان نسأل الله العفو .
ومن الدروس المستفادة معاملة الدارقطبي للباقلاني، وأهمية وجود الأذكياء المناظرين لمنهج أهل السنة المستوعبين لشبهات وحجج المخالفين والذين يملكون القدرات الكافية عقلاً وفصاحة وتأليفاً وعلماً والنية الصادقة للدفاع عن دين الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يخلو عصر من أهل الضلال ولابد من وجود أهل الحق المدافعين عن عقيدة الأمة ولا بد من أعطاء من يقوم بهذا الدور من الاحترام والتقدير والمحبة والنصرة لكونهم على ثغر كبير يحتاج من يسده. وقد مات الإمام أبو بكر الباقلاني عام 403ه وصلى عليه ابنه حسن وكانت جنازته مشهودة وكان سيفاً على المعتزلة والرافضة والمشبهة وغالب قواعده على الُّسَّنة، وقد أمر شيخ الحنابلة أبو الفضل التميميُّ منادياً يقول بين يدي جنازته : هذا ناصر السنة والدين والذَّاب عن الشريعة .
5-اتجاهات أهل السنة في بداية القرن الرابع : بعد ظهور أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي في بداية القرن الرابع صار أهل السنة على اتجاهين
الأول : التمسك بظاهر النصوص الشرعية وذلك في إثبات معاني الصفات مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد سُميَّ هؤلاء أهل الحديث ثم غلب عليهم التسمية بالحنابلة.
والثاني : التمسك بظاهر النصوص في بعض الصفات مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتأويل بعضها الآخر لأنه في نظرهم يوهم التشبيه، وقد اشتهر بهذا المذهب الأشاعرة والماتريدية وكان هؤلاء مقبولين عند أهل الحديث من بداية القرن الرابع إلى ما بعد منتصف القرن الخامس، لدفاعهم عن السنة ووقوفهم القوي ضد الجهمية والمعتزلة ولم يتجاوز الخلاف بينهم حدود الحوار العلمي مع التورع عن الاتهام في العقيدة والحكم بالضلال أو البدعة، وإنما كانوا يعتمدون على مبدأ الحكم بالخطأ على المخالف إذا كان من أهل الاجتهاد، إلى أن ظهر ابن القشيري وكان متعصباً لمذهبه إلى حد الغلو والتشدد، فحَّول الخلاف الدائر بين طائفتين أهل السنة إلى شقاق ونزاع ، ولخص ابن رجب هذه الفتنة بعد أن ذكر ما قام به الحنابلة من إنكار المنكرات عام أربعة وستين وأربعمائة : ومضمون ذلك أن أبا نصر القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده، والإيقاع به فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت، فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر، فوقعت الفتنة، وقتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون وأخذت ثياب، وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام وصاحوا : المستنصر بالله يا منصور – يعنون العبيدي الفاطمي صاحب مصر – وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي وأنه ممالئ للحنابلة، ولاسيما والشريف أبو جعفر ابن عمه ...إلخ وللأسف أن يصل بهؤلاء الخلاف حد إظهار الاستعانة بالباطني على الخليفة الشرعي. ومن ذلك الوقت كان الصراع العنيف يظهر على فترات من التاريخ وأصبح الحكم على المخالفين يتسم بالاتهام بالضلال والبدعة وبالكفر أحياناً وفي العصر الحديث بلغ الصراع العقدي أشده بين بعض علماء الطرفين وتبادل بعضهم الاتهامات بالضلال والبدعة، خصوصاً من طلاب العلم، والمنهج الحق أن تتسع صدور الفريقين للنقد الهادف وأن يكون هناك حوارات علمية تقوم على اعتبار قواعد الأخوة الإسلامية والأدب العلمي، مع استبعاد قضية البراءة من المخالفين ووصفهم بالابتداع والضلال فضلاً عن الفسق والكفر .
6-ميادين الصراع الفكري في العصر الحديث : إن هذا الصراع الفكري بين علماء المسلمين قد شغلهم عن ميادين المعركة الحقيقية مع المخالفين من الأعداء أو المنتسبين للإسلام وإن من أهم علامات نجاح الداعية أن يدرس واقع الجاهلية المعاصرة له بتمعن وتعمق مع فهم واقع المسلمين الفكري والسلوكي ثم يركز دعوته على محاربة المخالفات السائدة في عصره، فهذا يجاهد في ميدانه الحقيقي الحيوي .
هذا ومن أبرز الأمثلة على النجاح في هذا المجال دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه قد نجح نجاحاً باهراً، حيث قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، فقام بالرد على المخالفين بعلم راسخ وهدوء وروية أحياناً، وبشدة أحياناً أخرى حينما يقتضي المقام ذلك، فاستطاع أن يشد طلاب العلم إلى الكتاب والسنة وأن يقلص من الآثار الفكرية البعيدة عن هذا المنهج، ولكن ليس من الحكمة ولا من الدعوة أن نعيد المعارك العلمية التي خاضها ابن تيمية في هذا العصر، لأن لكل عصر مخالفات متميزة وصوراً للجاهلية تختص بكل عصر، كذلك فإن من أبرز أمثلة هذا النجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنه قد نجح في دعوته نجاحاً كبيراً، فهو قد قرأ كتب ابن تيمية واستفاد منها، ولكنه لم يسر على منهاجه، وإنما قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، ثم قام بتركيز دعوته على تصحيح المفاهيم الإسلامية حول تلك المظاهر، فنجده مثلاً في كتابه المتميز الذي يعتبر أهم كتبه وهو كتاب " التوحيد الذي هو حق الله على العبيد " يركز في جُلَّ أبوابه على تصحيح المفاهيم حول توحيد الألوهية، وذلك بعد دراسة المخالفات في ذلك في عصره وعلاجها في ضوء الكتاب والسنة، بينما لم يعقد للحكم بما أنزل الله إلا باباً واحداً، وذلك لأن المحيط الذي يعيش فيه لا يحتاج إلى ذلك، حيث إن الأحكام تقوم على المحاكم الشرعية، كما أننا نجده لم يعقد للأسماء والصفات إلا باباً واحداً، لأن المخالفات السائدة في محيطه ليست في هذا المجال، فكان ذلك من أسباب نجاحه في تصحيح المفاهيم السائدة في مجتمعه وإقامة دولة إسلامية كبيرة ، ولو أنه طبق منهج ابن تيمية بالكامل فشغل نفسه بالردود على المخالفين من أصحاب المناهج العقلية والباطنية وغلاة الصوفية ونحوهم لوافاه الأجل ولم يصنع شيئاً سوى إضافة كتب حول هذه الموضوعات إلى المكتبة الإسلامية ، وقد تغيرت الأوضاع في عصرنا الحاضر، فظهرت صور للجاهلية لم توجد من قبل كالمذاهب الفكرية المنبثقة من الشيوعية والحضارة الغربية وتضخم وجود بعض الصور التي كانت ضئيلة في الماضي كالحكم بغير ما أنزل الله تعالى وتوجيه السياسة على غير منهج الإسلام وحصر مفاهيم الإسلام في نطاق ضيق، وتضاءلت في بعض البلاد صور انحرافات كانت كبيرة في العصور الماضية، كعبادة الأموات والأشجار والأحجار، فليس المطلوب من الدعاة أن يركزوا على دراسة صور من الجاهليات القديمة، ولا أن يعيدوا دراسة المباحث الكلامية في مجالات النقد والردود على المخالفين بالمنهج نفسه الذي سار عليه المصلحون السابقون، وإنما لكل عصر دولة ورجال، والبراعة كل البراعة في دراسة الأوضاع المعاصرة دراسية دقيقة عميقة، ثم تسليط الأضواء عليها من خلال الكتاب والسنة، مع الاستفادة من اجتهادات أعلام الدعوة السابقين في دراستهم أوضاع مجتمعاتهم والقيام بالدعوة في تصحيح المفاهيم الخاطئة وتوجيه الأمة على هدى الإسلام الحنيف .
7-بعض مؤلفات أبي الحسن الأشعري : لم يقتصر أبو الحسن الأشعري على المناظرة والمعارضة، بل خلَّف مكتبة كثيرة من مؤلفاته في الدفاع عن السنة، وشرح العقيدة الحسنة وقد ألَّف تفسيراً للقرآن، أقل ما قيل في أجزائه أنه في ثلاثين مجلداً وقد ذكر بعض المؤلفين أن مؤلفاته تبلغ إلى ثلاثمائة مؤلف ، أكثرها في الرد على المعتزلة، وبعضها في الرد على مذاهب وفرق أخرى ومنها كتاب " الفصول " الذي رد فيه على الفلاسفة والطبيعيين، والدهرية، والبراهمة، واليهود، والنصاري، والمجوس، وهو كتاب كبير يحتوي على اثني عشر كتاباً، وقد ذكر ابن خلكان من مؤلفاته كتاب " اللمع " وإيضاح البرهان " والتبيين عن أصول الدين " و " الشرح والتفصيل في الرد على أهل الإفك والتضليل ". وله – عدا العلوم العقلية والكلام – مؤلفات في علوم الشريعة منها : " كتاب القياس " " كتاب الاجتهاد " و " خبر الواحد " وكتاب في الرد على ابن الراونديَّ في إنكاره للتواتر، وقد ذكر في كتابه " العمد " مؤلفاته التي فرغ منها سنة 320ه يعنى قبل وفاته بأربع سنوات، وهي ثمان وستون مؤلفاً، وكثير منها يقع في عشرة مجلدات أو أكثر، وقد ألَّف في آخر حياته كتباً كثيرة ويدل كتابه " مقالات الإسلاميين " على أنه لم يكن متكلماً، فحسب، بل كان مؤرّخاً أميناً لعلم العقائد، وقد اعترف بدقته وأمانته وتحرَّيه للصدق في النقل المستشرقون ، وكتب الفرق والديانات تدلُّ على أمانته ودقته في النقل .
8-اجتهاده في العبادة : لم يكن أبو الحسن الأشعري رجل علم وعقل وبحث ونظر فحسب، بل كان – مع وصوله إلى درجة الإمامة والاجتهاد في العلم والعقل – مجتهداً في العبادات متحلياً بالأخلاق الفاضلة، وذلك ما يمتاز به العلماء الأقدمون؛ فإن اشتغالهم بالعلم لم يكن مانعاً عن الاجتهاد في العبادات والحرص على الطاعات وكانوا يجمعون بين الدراسة والإفادة والعبادة والزهادة. قال أحمد بن علي الفقيه : خدمت الإمام أبا الحسن بالبصرة سنين، وعاشرته ببغداد إلى أن توفي رحمه الله فلم أجد أورعَ منه، وأغضًّ طرفاً، ولم أر شيخاً أكثر حياءً منه في أمور الدنيا، ولا أنشط منه في أمور الآخرة ويحكي أبو الحسين السَّروي من عبادته في الليل واشتغاله، ما يدل على حرصه وقوته في العبادة ، قال ابن خلكان : وكان يأكل من غَلِةِ صنيعة وقفها بلال بن أبي بردة بن أبي موسى على عَقبِه، وكانت نفقته في كل يوم سبعة عشر درهماً، هكذا قال له
الخطيب .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق