80
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية :
المبحث الرابع:النظام الإداري عند نور الدين:
أولاً:حسن اختياره للرجال:
اعتمد نور الدين نفس النظم الإدارية المعمول بها في عصره والتي كان السلاجقة قد أرسوا قواعدها العريضة وجاء الأيوبيون والمماليك من بعدهم لكي يسيروا بها نحو مزيد من النضج والتخصص والشمول، لكن نور الدين أكد على مؤشر أساسي في ميدان الإدارة ذلك هو أن كفاءة أجهزتها وحصيلة معطياتها لا تعتمد على بنيان الجهاز أو تركيب المنصب نفسه قدر اعتمادها على الرجال أنفسهم الذين يعهد إليهم بتسييرها ومن ثم فإننا نجد نور الدين يملأ بنماذج متنوعة من هؤلاء الرجال الذين كانوا يتباينون في الانتماء الجنسي والجغرافي والاجتماعي ولكنهم – في الأغلب – يجتمعون على تلك الميزات التي لا تستقيم بدونها إدارة ما ( ) .
1- أسد الدين شيركوه وبنو أيوب :
عندما قتل عماد الدين زنكي عام 541ه - 1146م والد نور الدين محمود وجد نور الدين في بعض رجالات والده المتقدمين في ميادين الإدارة المدنية والعسكرية ساعده الأيمن الذي اعتمده في الوصول إلى الحكم في حلب وتثبيت أركان إمارته الفتية هناك، اتصل به أسد الدين شيركوه عم الناصر صلاح الدين وقال له : أعلم أن الوزير جمال الدين الأصفهاني – أكبر وزراء زنكي – قد أخذ عسكر الموصل وعمل على تقديم أخيك سيف الدين غازي وتمليكه الموصل وقد انضوى إليه جل العسكر وقد أنفذ إلي يغريني على اللحاق به، فلم أستجب لطلبه، وقد رأيت أن أصيرك إلى حلب فتجعلها كرسي ملكك وتجتمع في خدمتك عساكر الشام، وأنا أعلم أن الأمر يصير جميعه إليك لأن من ملك الشام ملك حلب ومن ملك حلب استظهر على بلاد الشرق. فما كان من نور الدين إلا أن أصدر أمره بأن ينادي ليلاً في عساكر الشام للاجتماع، وأنطلق من ثم إلى حلب فدخلها في السابع من ربيع الأول واعتمد أسد الدين شيركوه الذي أصبح أشبه بوزيره الأول ( )، ومع الوقت استمرت علاقة أسد الدين مع نورالدين في القوة والإنسجام وأخذت تزداد مع الأيام حتى بلغت قمتها في ترشيح أسد الدين لقيادة الحملة النورية على مصر في رحلاتها الثلاثة كما اعتمد نور الدين على أسد الدين للاتصال بأخيه نجم الدين في دمشق والتمهيد لدخولها سلماًبعد إذ تبين استحالة أخذها عنوة. وقد توجت هذه الاتصالات الناجحة بدخول نور الدين دمشق عام 549ه - 1154م بمعونة الأخوين نجم الدين وأسد الدين حيث ازدادت مكانتهما ارتفاعاً، وبرز إلى دائرة الضوء ابنا نجم الدين وهما : الناصر صلاح الدين وتورانشاه كأميرين متقدمين في الدولة. وقد قال أبو شامة : كان لأسد الدين اليد الطولى في فتح دمشق فولاه نور الدين أمرها ورد إليه جميع أحوالها ( )، وزاد على ذلك فأقطعه الرحبة ( ) ويواصل أبو شامة حديثه فقال : وتوسط أسد الدين في أمر أخيه نجم الدين مع نور الدين، فأقطعه قطاعاً وسيره إلى دمشق فأقام فيها ورد نظر دمشق إليه، وولى ولده تورانشاه شحنكيه دمشق فساسها أحسن سياسة ولم يزل بها إلى أن استبدل بأخيه صلاح الدين ( ). وكان صلاح الدين قد فارق أباه نجم الدين منُذ عام 546ه - 1151 وانتقل إلى خدمة عمه أسد الدين في حلب فقدمه بين يدي نورالدين فقبله وأقطعه اقطاعاً حسناً ( ) . واستخص صلاح الدين وألحقه بخواصه فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر ( ) ويذكر ابن الأثير كيف أن كلاً من نجم الدين وأسد الدين صارا عند نور الدين بعد فتح دمشق في أعلى المنازل. لا سيما نجم الدين فإن سائر الأمراء كانوا لا يقعدون عند نور الدين إلا نجم الدين فإنه كان إذا دخل إليه قعد من غير أن يؤمر بذلك كما يحدثنا كيف أن أسد الدين كان قد لزم خدمة نور الدين منُذ أيام والده زنكي .. وبعد أن تولى إمارة حلب راح يقربه ويقدمه : ورأى منه شجاعة يعجز غيره عنها فزاده حتى صار له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عسكره ( ).
2- مجد الدين ابن الداية وأخوته :
لم يشأ نور الدين أن يجعل جل اعتماده على العناصر الإدارية المخضرمة ورأى أن يطعمها بعناصر جديدة أكثر ملائمة وفهماً لأهدافه، أسوة بما يفعله مؤسسو الدول في إعادة تنظيم أجهزتهم الإدارية وترشيح العناصر الأكثر تقبلاً للوضع الجديد وتجانسا معه ( ) وقد كان مجد الدين محمد أبو بكر بن الداية، شقيق نور الدين من الرضاعة واخوته شمس الدين علي وسابق الدين عثمان وبدر الدين حسن، وبهاء الدين عمر – الذي لم يبرز في ميدان الإدارة كما برزا اخوته لربما لصغر سنة، ويتحدث العماد الأصفهاني عن المكانة العالية التي بلغها مجد الدين واخوته في إمارة نور الدين فيقول : كان مجد الدين رضيع نور الدين قد تربى معه ولزمه وتبعه إلى أن ملك الشام بعد والده ففوض إليه نور الدين جميع مقاصده وحكمه في الملك فلا يحل ولا يعقد إلا برأيه. وكان يسكن قلعة حلب. وقد سلمت قلعة جعبر وتل باشر لأخيه الأصغر سابق االدين عثمان، وحارم لأخيه الثالث بدر الدين حسن. وثمة مواقع عديدة أخرى مثل عزاز وعين تاب وغيرهما كان مجد الدين يشرف عليها بنفسه عن طريق نوابه ( ) ، وعندما هدمت الزلازل شيزر عام 552 – 1157م واستولى عليها نور الدين من بني منقذ سلمها إلى مجد الدين ( ) . ويؤكد سبط ابن الجوزي أن مجد الدين وإخوته : كانوا أعز الناس على نور الدين وكان قد أسكنهم معه في قلعة حلب لا يصدر إلا عن رأيهم ( ). ويكاد المؤرخون يجمعون على أن مجد الدين أحسن تدبير المهمة التي عهدت إليه وأنه كان عند حسن الظن، وظل طوال خمسة عشر عاماً يتمتع بثقة سيده ومحبته وتفويضه الأمور في قاعدة ملكه حلب. وقد امتاز الرجل بشجاعته وتدينه وتعشقه لتقديم الخدمات الاجتماعية. وعندما توفي عام 565ه - 1169م نفس النسة التي توفي فيها نائب كبير آخر في دولة نور الدين يدعى العمادي محمد حزن نور الدين حزناً عميقاً وقال وهو يبكي : لقد قصت جناحاي وسرعان ما عمد بجميع ما كان له من مناصب وصلاحيات إلى أخيه شمس الدين علي الذي غدا بمرور الوقت : أكبر الأمراء النورية في حلب، وأما أخوه الآخر سابق الدين عثمان فقد جعله مقدم عساكره وفي عام (569ه - 1173م) السنة التي توفي فيها نور الدين – كان بنو الداية قد تمكن نفوذهم في حلب تماماً وأصبح : أمرهم إليهم وعساكرها معهم في حياة نور الدين وبعده ( ) . وكان شمس الدين علي قد عهدت إليه أمور الجيش والديوان، وعهدت الشحنكية إلى أخيه بدر الدين حسن، وكان بيد هؤلاء الأخوة جميع المعاقل المحيطة بحلب ( ) ، وكان هناك أسماء أخرى برزة طيلة العهد النوري لم تكن لتقل عن بني الداية شهرة وإنجازاً ( ) .
3- العماد الأصفهاني :
غادر بغداد ميماً شطر الشام فوصل إلى دمشق في شعبان سنة 562ه- 1166م وأعانه قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري وأنزله بالمدرسة الشافعية النورية وسرعان ما توثقت العلاقة بينه وبين بني أيوب : نجم الدين، وأسد الدين وصلاح الدين، ثم ما لبث كمال الدين الشهرزوري أن قدمه في أواخر السنة إلى نور الدين ونوّه بشأنه، فرتبه نور الدين في ديوانه منشئاً في مطلع عام 563ه ، 1167م وصار رئيس ديوان الإنشاء وكاتب السر ومديح الوثائق الرسمية حتى وفاة نور الدين وكان يتلقى من بني أيوب في مصر تقارير مفصلة عما يستجد فيها من أحداث فيقرأها على نور الدين ويكتب أجوبتها، وقد جاء تعيين العماد في هذا المنصب – كما يذكر هو نفسه – بعد استعفاء أبي اليسر بن عبد الله من الخدمة في ديوان الإنشاء واعتكافه في بيته، وهو يذكر أيضاً أنه وجد من نور الدين منُذ ذلك الوقت " الاعزاز والتمكين على الأيام " وقد اعتمده نور الدين فضلاً عن ذلك في عدد من السفارات : إلى شاه إرمن صاحب خلاط في أرمينيا أواخر سنة 564ه 1168م وإلى الخليفة العباسي في أوائل سنة 566ه 1170م، كما فوضه الإشراف على المدرسة النورية في دمشق، والتي سميت بعدئذ بالمدرسة العمادية نسبة إليه في رجب سنة 567ه 1171م وفي العام التي أصبح العماد مشرفاً على دواوين المملكة كلها إضافة إلى مهمته في ديوان الإنشاء، والإشراف هو المراقبة وتفتيش أمور الدواوين، فكان المشرف هو المفتش العام للحكومة ( ) فجمعت، يقول العماد، بين المنصبين وقسمت زماني على النصيبين فمرة للكتب والمناشير وتارة للاثبات في الدساتير ( ) ، ولم أثق بنائب وباشرت العمل بنفسي ( )، وبعد توجه الموفق خالد القيسراني إلى مصر قام العماد مقامه وصار مستوفي المملكة وأصبح بذلك الرجل الأول في الدولة وأكثر من يعتمدهم نور الدين من الرجال حتى وفاته، إذ أصبح العماد بمناصبه الثلاثة تلك المسؤول الأول عن الكتابة والإشراف الإداري والمالي ( )، ويحدثنا العماد عن الثقة المتبادلة بينه وبين نور الدين، وحرص الأخير على تجاوز (الروتين) الإداري فيقول : .. وقد مال إليّ نور الدين وعول في مناصبه علي وطالعته كل يوم بمرافق عملي ومنافع شغلي، فما أتحف بتحفة ولا أخص من أحد بعطية إلا أطالعه به وأطلعه على سببه، فكان يعجبه مني تلك الشيمة ويقول : تصرف فيه تصرفك في مالك ( ) ويمضي العماد إلى القول : ثم اعتمد علي اعتماداً كلياًً وجعلني له نجبا، وإذا أراد أن يكتب إلى أحد منهم يقول : أكتب إليه من عندك ومن جملة ذلك أن سعد الدين كمشتكين – نائبه في الموصل أخذ من رجل ألف دينار بعلة عللها، فجاء – الرجل – وتظلم، فأمرني نور الدين بأن أكتب إليه بردها عليه. فقال كمشتكين إنك كاتبي وأميني وصاحبي ولا تكتب إلا بأمري ؟ فإن خالف كتابك إليه قلعت عينيه !! فمضى إليه بكتابي فسارع إلى طاعته ورد عليه الألف في ساعته ( ) ، ومما لا شك فيه أن العماد الأصفهاني قد حقق نجاحاً كبيراً في مهماته الإدارية الأمر الذي أكسبه ثقة نور الدين المتزايدة وجعله يظفر سريعاً في مدى لا يتجاوز السنوات الست بأهم وظائف الدولة وأعلاها : الكتابة والإشراف (الإداري) والاستيفاء (المالي). وإذا صح ما يقوله الرجل عن نفسه – وهو الأرجح، لما سبق وأن ذكرناه – فإن نور الدين كان قد اعتمده إلى حد تفويضه الأمر كاملاً في مناصبه تلك. ورغم ذلك فإن العماد ما كان ليقدم على خطوة إلا بعد أن يطلع سيده عليها.. وقد عمق هذا الموقف، الذكي من الرجل الثقة بين الطرفين تلك التي استمرت حتى نهاية حكم نور الدين ( )، وتلي هذه الأسماء في ميدان الإدارة أي بنو الداية، وبنو أيوب والعماد الأصفهاني، أسماء أخرى أقل منها أهمية، وإن كان بعضها قد بلغ القمة التي بلغها أولئك الرجال، رغم أن المصادر لم تشر إليها إلا عرضاً ولم تقدم لنا الشيء الكثير ( ).
4- خالد بن محمد القيسراني :
مستوفي المملكة حتى عام 568ه 1172م والذي يصفه العماد بأنه كان عند نور الدين في مقام الوزير، وله انبِساط زائد ( )، ويذكر في الخريدة أنه لما وصل الشام وجد القيسراني في صدر مناصبها وبدر مراتبها وكان نور الدين قد رفعه واصطنعه وبلغ منه مبلغاً من الأمر كأنه أشركه في الملك معه ولقد كان حقيقاً بذلك ( ) . ويتحدث عنه أحد أحفاده المدعو معين الدين بن محمد فيقول : كان جدي خالد قريب المنزلة من نور الدين إلى الغاية، وإليه استيفاء دواوينه بأسرها، وكتابة الإنشاء وإمره مجلسه وهو المشير والوزير والأمور كلها عائدة إليه ( ) ، وواضح أن عمله في كتابه الإنشاء كان في الفترة التي سبقت توليها من قبل العماد الأصفهاني ( ) .
5- محمد العمادي :
صاحب نور الدين وأمير حاجبه وأحد كبار نوابه في حلب وصاحب بعلبك وتدمر ( ). وكانكما يصفه سبط ابن الجوزي : عزيزاً عند نور الدين ومن أعظم أمرائه ( ).
6- الشيخ الأمير مخلص الدين أبو البركات عبد القاهر بن علي بن أبي جرادة الحلبي الأمين على خزائن أموال نور الدين، كان كاتباً بليغاً حسن البلاغة نظماً ونثراً مستحسن الفنون من التذهيب البديع، وحسن الخط المحررَّ على الأصول القديمة المستطرفة، مع صفاء الذهن، وتوقد الفطنة والذكاء ( ) .
7- أبو سالم بن همام الحلبي : ولي الإشراف على الديوان بدمشق حتى عام 551ه - 1156م حينما كشف التحقيق معه عن استغلاله المنصب لسرقة أموال الدولة فألقي القبض عليه واعتقل ثم أصدر نور الدين أمراً بكشف خيانته للناس وعقابه عقاباً قاسياً والطواف به في الأسواق حيث كان المنادي يصيح : هذا جزاء كل خائن. وبعد أن أقام في المعتقل بدمشق أياماً أمر نور الدين بنفيه إلى حلب فغادر دمشق : على أقبح صفة من لعن الناس ونشر مخازيه ( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق