113
دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الرابع
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
المبحث الأول:نشأة المدارس وأهدافها:
ثالثاً : وسائل النظام في تحقيق الأهداف وحله للمشاكل :
أبدى نظام الملك اهتماماً كبيراً بوسائل تحقيق أهداف المدارس النظامية؛ فاختار الموقع الجغرافي الذي يمكن أن تثمر فيهن والمدرسين الممتازين، وأظهر ذكاء ملحوظاً في تحديد المنهج العلمي الذي ستسير عليه، ثم بذل أقصى جهوده لتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على العطاء الفكري السخي .
1-الأماكن : فمن ناحية الأماكن التي أنشئت النظاميات فيها يقول السبكي عن نظام الملك : إنه بنى مدرسة ببغداد ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل . هذه إذن هي أمهات المدارس النظامية التي أنشئت في المشرق الإسلامي ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أنشئ إما في بعض المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد وأصفهان، حيث كانت الأولى : عاصمة للخلافة العباسية السنية، ويتركز فيها عدد كبير من المفكرين السنيين أيضاً.
والثانية : كانت عاصمة للسلطنة السلجوقية في عهد ألب أرسلان وملكشاه ( عصر نظام الملك ) وإما في بعض المناطق التي كانت مركزاً لتجمع شيعي في تلك الفترة كالبصرة ونيسابور، وطبرستان، وخوزستان، والجزيرة الفراتية . إن هذا التوزيع الجغرافي يشير بوضوح إلى أن وضع المدارس النظامية في الأماكن السابقة لم يأت اعتباطاً، وإنما كان أمراً مقصوداً ومدروساً حتى تقوم بدورها في محاربة الفكر الشيعي في هذه المناطق، وتفتح الطريق أمام غلبة المذهب السني.
2-اختيار الأساتذة والعلماء : وإلى جانب الاختيار المدروس لأماكن المدارس النظامية فإنه تم اختيار أساتذتها بعناية تامة بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، ويشير العماد الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية فيقول عنه وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيراً ينقب عن أحوال كل منهم، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه .. ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه، وربما سيره إلى إقليم خال من العلم ليحلَّي به عاطله، ويحي به حقه، ويميت به باطلة .
وفي كثير من الأحيان كان نظام الملك لا يعين الواحد منهم إلا بعد أن يستمع إليه ويثق في كفاءته حدث ذلك مع الإمام الغزالي الذي كان يتفقه على إمام الحرمين في نظامية نيسابور، فلما مات إستاذه في عام 478ه قصد مجلس نظام الملك، وكان : مجمع أهل العلم وملاذهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله وتولاه الصاحب " نظام الملك " بالتعظيم والتبجيل وولاه تدريس مدرسته ببغداد .
وفعل مثل ذلك مع أبي بكر محمد بن ثابت الخُجندي ت 496ه الذي سمعه نظام الملك وهو يعظ بمرو، فأعجب به : وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصبهان وعينه مدرساً بمدرستها فنال جاها عريضاً . كما استدعى الشريف العلوي الدبوسي ت 483ه، ليدرس بنظامية بغداد، لأنه كان بارعاً في الفقه والجدل .
وفي بعض الأحيان كان نظام الملك يكتشف الأستاذ أولاً فيبني له مدرسة باسمه حدث هذا مع الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ت 476ه الذي بنى له نظامية بغداد، ومع إمام الحرمين الذي بنى له نظامية نيسابور وكان نظام الملك يحوط هؤلاء العلماء برعايته، ويمدهم بتأييده، حتى احتلوا منزلة عليا في البلاد التي حلوا بها، وصار لبعضهم وجاهة في بلاط السلطان كأبي إسحاق الشيرازي الذي اختاره الخليفة المقتدي في عام 475ه، ليحمل شكواه من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث إلى السلطان ملكشاه ووزيره نظام الملك، فأكرماه وأجيب إلى جميع ما التمسه، وجرى بينه وبين إمام الحرمين مدرس نظامية نيسابور مناظرة، بحضرة نظام الملك، ولما عاد أبو إسحاق إلى بغداد أهين العميد، ورفعت يده على جميع ما يتعلق بالخليفة .
3-تحديد منهج الدراسة : كما عنى نظام الملك باختيار الأساتذة الأكفاء لمدارسه، فإنه حّدد منهج الدراسة التي ستسير عليه هذه المدارس، ويتضح هذا المنهج مما ورد في وثيقة وقفية نظامية ببغداد من أنها : وقف على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعاً وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها والواعظ الذي يعظ بها، ومتولي الكتب .
وينقل الأستاذ سعيد نفيسي عن المفروخي، مؤلف كتاب محاسن أصفهان قوله : إن نظام الملك أمر بإبتناء مدرسة تجاور جامع أصفهان للفقهاء الشافعية : فأبتنيت كأحسن مارئي هيأة وهيكلاً وصنعة وعملاً ومحلاً ومنزلاً ، ومّما لا شك فيه بأن تراث الإمام الشافعي في الفقه والأصول والعقائد وسيرته الذاتية كان لها أثر على تلك المدارس، وليس في الفقه فقط المتعلق بالأحكام الشرعية العملية، وقد اعتاد بعض الباحثين بالقول بأن معظم الشافعية في هذه الفترة – يتبعون في أصول مذهب الإمام الأشعري، كما أن أبا الحسن الأشعري في مجال الاعتقاد مّر بأطوار واستقر في آخر حياته على مذهب السلف، والأشاعرة من أهل السنة والجماعة، ولذلك سنبين بإذن الله تعالى شيء من سيرة الإمام الشافعي وأبي الحسن الأشعري اللذين على تراثهما العلمي قامت المدارس النظامية والتي كانت تخرج العلماء الذين يتبنون عقيدة الدولة السلجوقية، كان اهتمام المدارس النظامية قد انصرف إلى التركيز على مادتين أساسيتين هما : الفقه على المذهب الشافعي، وأصول العقيدة على مذهب الأشعري وإلى جانب ذلك كانت تدرس بعض المواد كالحديث، والنحو وعلمي اللغة والأدب، ويشير ابن الجوزي إلى وقفية نظام الملك الخاصة بمدرسة بغداد نصت على أن يكون في المدرسة نحوي يدرس العربية ، وقام بتدريس الأدب في نظامية بغداد أبو زكريا التبريزي، شارح ديوان الحماسة ت 502ه ثم خلفه في التدريس العالم اللغوي المشهور أبو منصور الجواليقي ت 540ه، كانت المدرسة الأشعرية السنية مؤهلة لمواجهة الشيعة فكرياً، وهم الذين تسلحوا بدارسة الفلسفات المختلفة واستخدموا الجدل في الدفاع عن عقائدهم، وأخذوا عن المعتزلة معظم أصولهم فأصبحت تشكل لبنات هامة في منهجهم الكلامي، لقد كانت من الفئات القادرة على الجهاد الدعوي في هذا الميدان الفكري وهم الذين استوعبوا تراث أبي الحسن الأشعري ولذلك نقول : إن نظام الملك وفق تماماً في اختيار المنهج الملائم لتحقيق الهدف الذي سعى إليه . ويأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله.
4-توفير الإمكانات المادية : لم يبخل نظام الملك بتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذ نراه ينفق عليها بسخاء ويخصص لها الأوقاف الواسعة، فيذكر ابن الجوزي أن نظام الملك وقف على مدرسته ببغداد ضياعاً وأملاكاً، وسوقاً بنيت على بابها وأنه فرض لكل مدرس وعامل بها قسط من الوقف، وأجرى للمتفقهة (الطلاب) أربعة أرطال خبز يومياً لكل واحد منهم ، أما مدرسة أصفهان فقدرت نفقاتها وقيمة أوقافها بعشرة آلاف دينار، وكان للمدرسة النظامية وفي نيسابور أوقاف عظيمة ، وقد اهتم نظام الملك بتوفير السكن للطلاب داخل هذه المدارس، ويفهم من بعض الروايات التاريخية : أن كل طالب كانت له غرفة خاصة به، إذ روي أن واحداً من طلابها ويدعى يعقوب الخطاط توفي في عام 547ه وكانت له غرفة في النظامية، فحضر متولي التركات، وختم على غرفته في المدرسة ، وكما حرص نظام الملك على توفير الحياة المعيشية الكريمة لطلاب مدارسه، فإنه حرص أيضاً على تهيئة المناخ العلمي الذي يساعدهم على الدراسة والبحث فاهتم اهتماماً كبيراً بتوفير المراجع العلمية داخل هذه المدارس، فكان في كل مدرسة مكتبة عامرة يتولى أمرها قْوام على شؤونها وأشار ابن الجوزي إلى أن وقفية نظامية بغداد نصت على أن يكون متولي الكتب بها أيضاً شافعياً، كما أشارت إلى أن نظام الملك وقف على هذه المدرسة كثيراً من الكتب ، وكان نظام الملك يتفقد هذه المدارس وخاصة نظامية بغداد، ففي المحرم من عام 480ه زاد هذه المدرسة وجلس في خزانة كتبها، وقرأ بها كتباً، ثم شارك في التدريس، فقرأ الفقهاء عليه شيئاً من الحديث الشريف، وأملى عليهم بعضاً منه ، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الجهود التي بذلها نظام الملك في تشييد هذه المدارس وتيسير سبل العلم فيها، وتوفير الحياة الكريمة بداخلها أن تروج سوق العلم بها، فأقبل عليها طلاب العلم والجاه حتى بلغ عددهم في نظامية بغداد سنة 488ه ثلاثمائة طالب كانوا يتفقهون على الإمام الغزالي ، أما نظامية نيسابور فكان يقعد بين يدي إمام الحرمين : كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة .
5-تطلع الأساتذة إلى التدريس بالنظامية : ولم يكن الإقبال على هذه المدارس مقصوراً على الطلاب فقط، بل شمل أيضاً الأساتذة الذين تطلعوا إلى التدريس بها حتى وصل الأمر بعضهم إلى أن يضحي في سبيل هذه الغاية بالتخلي عن مذهبه في عصر كان التعصب المذهبي سمة من سماته البارزة، ومن هؤلاء : أبو الفتح أحمد بن علي بن تركان المعروف بابن الحمامي ت 518ه كان حنبلياً، فانتقل إلى مذهب الشافعي، وتفقه إلى المذهب الشافعي وتفقه على أبي بكر الشاشي والغزالي، فجعله أصحاب الشافعي مدرساً، بالنظامية ، ويبدو أن انتقال الحنابلة إلى مذهب الشافعي في هذه الفترة كان أمراً كثير الحدوث بدرجة أزعجت أحد أئمتهم وهو أبو الوفاء بن عقيل ت 513ه حيث ينقل عنه أبو الفرج بن الجوزي قوله : إن أكثر أعمال الناس لا يقع إلا للناس إلا من عصم الله. أي أن معظم الناس لا يبتغون بأعمالهم وجه الله : وإنما يحاولون التقرب بها إلى ذوي النفوذ والجاه طمعاً في متاع الدنيا، وقد ضرب أبو الوفاء المثل على ذلك بما حدث عندما جاءت دولة نظام الملك، وعظم شأن الأشعرية والشافعية، فوجد كثيراً من أصحاب المذاهب انتقلوا عن مذاهبهم، وتوثقوا بمذهب الأشعري والشافعي طمعاً في العز والجرايات .
6-حله للمشاكل : كان النظام حريصاً على أن تؤدي المدارس التي بناها رسالتها المنوطة بها فعندما أرسل إليه ابو الحسن محمد بن علي الواسطي الفقيه الشافعي أبياتاً من الشعر يستحثه على المسارعة للقضاء على الفتن التي حدثت بين الحنابلة والأشاعرة قام نظام الملك وقضى على الفتنة ومما قاله أبو الحسن الواسطي من الشعر :
يا نظام الملك قد حلّ
ببغداد النظام
وابنك القاطن فيها
مستهان مستضام
وبها أودى قتلى
غلام، وغلام
والذي منهم تبقى
سالماً فيه سهام
يا قوام الدين لم
يبق ببغداد مقام
عظم الخطب وللحرب
اتصال ودوام
فمتى لم تحسم الداء
أياديك الحسام
ويكف القوم في
بغداد قتل وانتقام
فعلى مدرسة فيها
ومن فيها السلام
واعتصام بحَريهم
لك من بعد حرام
وكانت سياسة نظام الملك تجنب الانحياز إلى جانب دون الآخر من عقائد أهل السنة وكان يعمل على شد أزر رجال الدين لا العمل على إدخال الخلاف والشقاق في صفوفهم وأعلن استحالة تغيير أي شيء من عقائد أصحاب مذهب سني وقال بأنه لا يمكن تغيير المذاهب ولا نقل أهلها عنها وصّرح بأن الغالب على تلك الناحية مذهب أحمد وبأن محله معروف عند الأئمة وقدره معلوم عند السنة ، وسُرَّ الحنابلة بهذا التوجه الحكيم . وأول صراع وخلاف حاد بين الحنابلة والأشاعرة كان في عهد نظام الملك وتعرف هذه المحنة بفتنة ابن القشيري .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق