186
عصر الخلفاء الراشدين (1) أبوبكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره
الفصل الثالث: جيش أسامة وجهاد الصديق لأهل الردة
المبحث الخامس : أهم الدروس والعبر والفوائد من حروب الردة
ثالثاً: سياسة الصديق في محاربة التدخل الأجنبي:
أدت حركة الدولة الإسلامية الضاربة في الجزيرة العربية إلى لجوء كثير من القبائل المجاورة لكل من الروم والفرس التسليم للدولة الإسلامية، وما أن سمعوا بوفاة رسول الله ? حتى سعوا للتقرب من الدولتين، واستغل الفرس والروم هذه القبائل بالحض والتشجيع والدعم لتقف ضد الدولة الإسلامية( )، فكانت سياسة الصديق للتصدي لهذا الدعم الخارجي، بأن أرسل حملة أسامة بن زيد إلى الشام بعد وفاة رسول الله ?، فكانت تلك الحملة بمثابة الضمان لاسترسال تلك القبائل على مهاجمة الدولة الإسلامية، وأرسل أبو بكر أيضاً خالد بن سعيد بن العاص على رأس جيش إلى الحمقتين من مشارف الشام، وعمراً بن العاص إلى تبوك ودومة الجندل، وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى البحرين (أي ساحل الخليج العربي كله)، ثم تابع المثنى بن حارثة الشيباني إلى جنوب العراق بعد القضاء على ردة البحرين، واضطرت سجاح التميمية وقد كانت من نصارى العرب في العراق التي كانت تحت سيطرة الفرس، أن ترتد عائدة إلى العراق لما رأت قوة المسلمين، لقد كان المسلمون بقيادة أبي بكر على مستوى اليقظة والمسؤولية، فحفظوا الحدود الشمالية بدقة، فمن الشرق إلى الغرب على طول الحدود الشمالية المتاخمة للفرس والروم نجد العلاء الحضرمي، وخالد بن الوليد شمال نجد، ثم عمرو بن العاص في دومة الجندل، وخالد بن سعيد على مشارف الشام، ناهيك عن جيش أسامة( ).
كان الفرس يتربصون بالإسلام الدوائر، ولكنهم كمنوا كمون الأفعى، وخاصة أنهم كانوا يرون المد الإسلامي يكتسح من أمامه كل أقزام التاريخ، ويزيح من وجهه جميع قوى الشر والطغيان، وعندما حانت الفرصة بإرتداد بعض القبائل عن الإسلام وتوجهت قبيلة بكر بن وائل إلى كسرى بعد وفاة الرسول تعرض عليه إمارة البحرين، فلاقى العرض قبولا لديه، وأرسل معهم المنذر بن النعمان على رأس قوة مؤلفة من سبعة آلاف فارس وراجل وعدد من الخيل تقارب في أعدادها المائة لمساعدتهم في مواجهة المسلمين وهم شرذمة لايخشى خطرهم كما يقول الكلاعي( ) وكان مسيلمة الكذاب تتطلع إليه الأعين من بلاط فارس( )، وقد ذكر الدكتور محمد حسين هيكل: من أن سجاح، لم تنحدر من شمالي العراق إلى شبه الجزيرة يتبعها رهطها إلا مدفوعة بتحريض الفرس، وعمالهم في العراق كي يزيدوا الثورة في بلاد العرب اشتعالاً( ) هذا عن دور الفرس أما دور الروم فقد كان أظهر وأخطر، ذلك لأن موقف الروم من الإسلام ودولته كان أصلب وأعتى فهم أمة ذات فكر وعقيدة، وذات نظم وقوانين متقدمة، ولهم من العَدد والعُدد مدد لايكاد ينقطع، ومن الحلفاء والأتباع دول ودول، ولذا كانت العلاقات بينهما في أعلى درجات سخونتها وتوترها منذ فترات مبكرة( ) وقد لجأ الروم ومنذ وقت مبكر بعد وصول كتب رسول الله ?، إلى محاولة الصدام مع المسلمين، فكان من جرّاء ذلك غزوتا: مؤتة وتبوك اللتان اثبتتا لهم ماديا أن الدولة الإسلامية ليس من السهل ابتلاعها أو شراء أصحابها، كما أثبتت للمسلمين من جهة أخرى، إخلاص متنصرة العرب من قبائل الشام لأبناء دينهم من الروم وعلى الرغم من الاتفاقيات التي عقدها رسول الله بنفسه إثر غزوة تبوك مع أمراء الشام من أتباع الروم، فإن الروم كانوا لايكفّون عن مناوشة الدولة الإسلامية ومحاولة قص أجنحتها، وبالتالي القضاء عليها وكان الصديق ? متنبهاً لهذا الأمر جيداً، وقد تمثل ذلك بإصراره الشديد على إنفاذ جيش أسامة لوجهته، وقد رأى قبائل العرب في شمالي الجزيرة من لخم وغسان وجذام وبلي وقضاعة وعذره وكلب، تعود للانقضاض على عهود رسول الله ? التي أبرمها معها. ومن غير الدولة الرومية يمدهم بوقود المعركة من سلاح ورجال ومال، ومخططات؟ وكأنه كان يريد أن يقول للروم بلسان الحال: إنه على الرغم من انتقاض العرب داخل بلادي، فإن ذلك لن يفت في عضدنا نحن المسلمين، ونحن قادرون أن نصد عن دولتنا أكبر هجمة عالمية ولو كانت من جانبكم( ).
إن انتقاض الجزيرة العربية جدد الأمل عند الفرس والروم بأن العرب سيقضون على الاسلام، وقدمت الفرس والروم للعرب الثائرين على الحكم الاسلامي كثيراً من المساعدات، وآوت الفارين منهم، ولذلك لم يكد المسلمون يعيدون الجزيرة العربية الى وحدتها حتى كان الأوان قد آن للزحف نحو الشمال لمواجهة العدوين الكبيرين اللذين يتربصان بالاسلام( ).
لقد تحرك الصديق من قاعدته الأمينة (المدينة المنورة) وبعث منها الجيوش وزودها بكل مامن شأنه يجعلها ذات هيبة في عيون أعدائها وفي قلوبهم، وقد استطاع الصديق أن يفيض من قاعدته الخير على بقية أرجاء الجزيرة العربية وماكان له أن ينطلق لفتح بلاد الشام والعراق، لولا أنه أمّن قاعدته الكبرى الجزيرة العربية، موالية للاسلام موحدة على أساسه، وقد تمثل أمن هذ القاعدة في ثلاثة مستويات هي: أولاً عزم الخليفة على مواصلة الجهاد، وإيمانه الوطيد بصلاحية فكره وتميزه واستعلائه به، وثانياً: نظافة مجتمعه الأصغر، مجتمع المدينة من مهاجرين وأنصار، وثالثاً تطهير مجتمه الأكبر وهو المجتمع العربي من أدران الشرك، وعقابيل الردة، وقد انبنت هذه المستويات بعضها على بعض حتى سما البناء شامخاً قوياً، واستطاع أن يرمي به ثغور العراق والشام رمياً زعزع كيانات الروم والفرس زعزعة شديدة في أمد قصير، وماذلك إلا لأن الجيوش المنطلقة من الجزيرة كانت موحدة الصفوف، موحدة الفكر، موحدة الراية، محمية الظهر، مؤمنة مراكز التموين( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق