108
عصر الخلفاء الراشدين (1) أبوبكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره
الفصل الثاني:وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وسقيفة بني ساعدة وجيش أسامة
المبحث الثاني:البيعة العامة وإدارة الشؤون الداخلية
ثانياً: إدارة الشؤون الداخلية:
2-القضاء في عهد الصديق:
يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه، فكان العهد الراشدي عامة، والجانب القضائي خاصة، امتداداً للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ماثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه، وتظهر أهمية العهد الراشدي في القضاء بأمرين أساسيين:
· المحافظة على نصوص العهد النبوي في القضاء، والتقيد بما جاء فيه، والسير في ركابه، والاستمرار في الالتزام به.
· وضع التنظيمات القضائية الجديدة لترسيخ دعائم الدولة الإسلامية الواسعة ومواجهة المستجدات المتنوعة([102]).
كان أبو بكر t يقضي بنفسه إذا عرض له قضاء، ولم تفصل ولاية القضاء عن الولاية العامة في عهده، ولم يكن للقضاء ولاية خاصة مستقلة كما كان الأمر في عهد رسول الله e، إذ كان الناس على مقربة من النبوة، يأخذون أنفسهم بهدي الإسلام، وتقوم حياتهم على شريعته، وقلما توجد بينهم خصومة تذكر، ففي المدينة عهد أبو بكر إلى عمر بالقضاء، ليستعين به في بعض الأقضية ولكن هذا لم يعطي لعمر صفة الاستقلال بالقضاء([103])، وأقر أبو بكر t معظم القضاة والولاة الذين عينهم رسول الله واستمروا على ممارسة القضاء والولاية أو أحديهما في عهده([104]) وسوف نأتي على ذكر الولاة وأعمالهم بإذن الله تعالى.
وأما مصادر القضاء في عهد الصديق t هي:
1-القرآن الكريم.
2-السنة النبوية ويندرج فيها قضاء رسول الله e.
3-الإجماع، باستشارة أهل العلم والفتوى.
4-الاجتهاد والرأي، وذلك عند عدم وجود مايحكم به من كتاب أو سنة أو إجماع([105]).
فكان ابو بكر t إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه مايقضي به قضى، فإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله e، فإن وجد فيها مايقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس، هل علمتم أن رسول الله e قضى فيه بقضاء، فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا أو بكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله، يقول عندئذ: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به([106])، ويظهر أن الصديق يرأى الشورى ملزمة إذا اجتمع رأي أهل الشورى على أمر، إذ لايجوز للإمام مخالفتهم وهذا ماحكى عنه في القضاء فإنه كان إذا اجتمع رأي المستشارين على الأمر قضى به وهذا ماأمر به عمرو بن العاص عندما أرسل إليه خالد بن الوليد مدداً حيث قال له: شاورهم ولاتخالفهم([107])، وكان t يتثبت في قبول الأخبار، فعن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله تعالى شيئاً، وماعلمت أن رسول الله e ذكر لك شيئاً، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله e يعطيها السدس فقال أبو بكر: هل معك أحد؟ فشهد ابن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر t([108])، وكان يرأى أن القاضي لايحكم بعلمه الشخصي، إلا إذا كان معه شاهد آخر يعزز هذا العلم، فقد روي عن أبي بكر t أنه قال: لو رأيت رجلاً على حد، لم أعاقبه حتى تقوم البينة عليه، أو يكون معي شاهد آخر([109])، وهذه بعض الأقضية التي صدرت في عهد أبي بكر t:
أ-قضيه قصاص:
قال علي بن ماجدة السهمي: قاتلت رجلاً، فقطعت بعض أذنه، فقدم أبو بكر حاجا، فرفع شأننا إليه، فقال لعمر: انظر هل بلغ أن يقتص منه، قال: نعم، عليَّ بالحجّام، فلما ذكر الحجام قال أبو بكر: سمعت رسول الله e يقول: إني وهبت لخالتي غُلاما، أرجو أن يبارك لها فيه، وإني نهيتها أن تجعله حجاماً، أو قصّاباً، أو صانعاً([110]).
2-نفقة الوالد على الولد:
عن قيس بن حازم قال: حضرت أبا بكر الصديق t، فقال له رجل: ياخليفة رسول الله: هذا يريد أن يأخذ مالي كله ويجتاحه، فقال أبو بكر t: إنما لك من ماله مايكفيك، فقال: ياخليفة رسول الله e، أليس قال رسول الله e: أنت ومالك لأبيك؟ فقال أبو بكر t: ارض بما رضي الله به، ورواه غيره عن المنذر بن زياد، وقال فيه: إنما يعني بذلك النفقة([111]).
3-الدفاع المشروع:
عن أبي مليكة عن جده أن رجلاً عضَّ يد رجل فأنذَرَ ثنيته (قلع سنه) فأهدرها أبو بكر([112]).
4-الحكم بالجلد:
روى الإمام مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته: أن أبا بكر الصديق أتى برجل قد وقع على جارية بكر فأحبلها، ثم اعترف على نفسه بالزنا، ولم يكن أحصن، فأمر به أبو بكر فجلد الحدَّ، ثم نُفي إلى فدك([113])، وفي رواية بأنه لم يجلد الجارية ولم ينفها لأنها استكرهت، ثم زوجها إياه أبو بكر وأدخله عليها([114])، وعندما سئل الصديق عن رجل زنى بامرأة، ثم يريد أن يتزوجها قال: مامن توبة أفضل من أن يتزوجها، خرجا من سفاح إلى نكاح([115]).
5-الحضانة للأم مالم تتزوج:
طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية-أم ابنه عاصم- فلقيها تحمله بمُحَسِّر([116])، ولقيه قد فُطم ومشى، فأخذ بيديه لينتزعه منها، ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى، وقال: أنا أحق بإبني منك. فاختصمها إلى أبي بكر، فقضى لها به، وقال: ريحها، وحِجْرُها وفرشها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه([117]) وفي رواية: هي أعطف وألطف وأرحم وأحْنا وأرأف، وهي أحق بولدها مالم تتزوج([118]).
هذه بعض الأقضية والأحكام التي حدثت في عهد الصديق t هذا وقد تميز القضاء في عهد الصديق بعدة أمور منها:
أ-كان القضاء في عهد الصديق امتداداً لصورة القضاء في العهد النبوي، بالالتزام به، والتأسي بمنهجه، وانتشار التربية الدينية، والإرتباط بالإيمان والعقيدة والاعتماد على الوازع الديني، والبساطة في سير الدعوى، واختصار الإجراءات القضائية، وقلة الدعاوى والخصومات.
ب- اصبحت الأحكام القضائية في عصر الصديق موئل الباحثين، ومحط الأنظار للفقهاء، وصارت الأحكام القضائية، مصدراً للأحكام الشرعية، والاجتهادات القضائية، والآراء الفقهية في مختلف العصور.
جـ-مارس الصديق وبعض ولاته النظر في المنازعات، وتولي القضاء بجانب الولاية.
د-ساهمت فترة الصديق في ظهور مصادر جديدة للقضاء في العهد الراشدي، وصارت مصادر الأحكام القضائية هي: القرآن الكريم، والسنة الشريفة، الإجماع، القياس، السوابق القضائية، الرأي الاجتهادي مع المشورة([119]).
هـ-كانت آداب القضاء مرعية في حماية الضعيف، ونصرة المظلوم، والمساواة بين الخصوم وإقامة الحق والشرع على جميع الناس، ولو كان الحكم على الخليفة أو الأمير أو الوالي، وكان القاضي في الغالب يتولى تنفيذ الأحكام، إن لم ينفذها الأطراف طوعاً واختياراً، وكان التنفيذ عقب صدور الحكم فوراً([120]).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق