1556
البداية والنهاية ( ابن كثير ) الجزء التاسع
ثم دخلت سنة ست وتسعين
ثم أمر الوليد بإحضار آلات الهدم، واجتمع إليه الأمراء والكبراء، وجاء إليه أساقفة النصارى وقساوستهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن، فقال الوليد: أنا أحب أن أجن في الله، و والله لا يهدم فيها أحد شيئاً قبلي، ثم صعد المنارة الشرقية ذات الأضالع المعروفة بالساعات، وكانت صومعة هائلة فيها راهب عندهم، فأمره الوليد بالنزول منها، فأكبر الراهب ذلك، فأخذ الوليد بقفاه فلم يزل يدفعه حتى أنزله منها، ثم صعد الوليد على أعلى مكان في الكنيسة، فوق المذبح الأكبر منها الذي يسمونه الشاهد، وهو تمثال في أعلى الكنيسة.
فقال له الرهبان: احذر الشاهد، فقال: أنا أول ما أضع فأسي في رأس الشاهد، ثم كبر وضربه فهدمه، وكان على الوليد قباء أصفر لونه سفرجلي قد غرز أذياله في المنطقة، ثم أخذ فأساً بيده فضرب بها في أعلى حجر فألقاه، فتبادر الأمراء إلى الهدم، وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، وصرخت النصارى بالعويل على درج جيرون، وكانوا قد اجتمعوا هنالك، فأمر الوليد أمير الشرطة وهو أبو نائل رياح الغساني، أن يضربهم حتى يذهبوا من هنالك، ففعل ذلك، فهدم الوليد والأمراء جميع ما جدده النصارى في تربيع هذا المعبد من المذابح والأبينة والحنايا، حتى بقي المكان صرحة مربعة، ثم شرع في بنائه بفكرة جيدة على هذه الصفة الحسنة الأنيقة، التي لم يشتهر مثلها قبلها كما سنذكره.
وقد استعمل الوليد في بناء هذا المسجد خلقاً كثيراً من الصناع والمهندسين والفعلة، وكان المستحث على عمارته أخوه وولي عهده من بعده سليمان بن عبد الملك، ويقال: إن الوليد بعث إلى ملك الروم يطلب منه صناعاً في الرخام وغير ذلك، ليستعين بهم على عمارة هذا المسجد على ما يريد، وأرسل يتوعده لئن لم يفعل ليغزون بلاده بالجيوش، وليخربن كل كنيسة في بلاده، حتى كنيسة القدس، وهي قمامة، وكنيسة الرها، وسائر آثار الروم.
فبعث ملك الروم إليه صناعاً كثيرةً جداً، مائتي صانع، وكتب إليه يقول: إن كان أبوك فهم هذا الذي تصنعه وتركه فإنه لوصمة عليك، وإن لم يكن فهمه وفهمت أنت لوصمة عليه. (ج/ص: 9/168)
فلما وصل ذلك إلى الوليد أراد أن يجيب عن ذلك، واجتمع الناس عنده لذلك، فكان فيهم الفرزدق الشاعر، فقال: أنا أجيبه يا أمير المؤمنين من كتاب الله. قال الوليد: وما هو ويحك؟ فقال: قال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] وسليمان هو ابن داود، ففهمه الله مالم يفهمه أبوه. فأعجب ذلك الوليد فأرسل به جواباً إلى ملك الروم. وقد قال الفرزدق في ذلك:
فرقت بين النصارى في كنائسهم * والعابدين مع الأسحار والعتم
وهم جميعاً إذا صلوا وأوجههم * شتى إذا سجدوا لله والصنم
وكيف يجتمع الناقوس يضربه * أهل الصليب مع القراء لم تنم
فهمت تحويلها عنهم كما فهما * إذ يحكمان لهم في الحرث والغنم
داود والملك المهدي إذ جزآ * ولادها واجتزاز الصوف بالجلم
فهمك الله تحويلاً لبيعتهم * عن مسجد فيه يتلى طيب الكلم
ما من أب حملته الأرض نعلمه * خير بنين ولا خير من الحكم
قال الحافظ عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الدمشقي: بنى الوليد ما كان داخل حيطان المسجد، وزاد في سمك الحيطان.
وقال الحسن بن يحيى الخشني: إن هوداً عليه السلام هو الذي بنى الحائط القبلي من مسجد دمشق.
وقال غيره: لما أراد الوليد بناء القبة التي وسط الرواقات - وهي قبة النسر، وهو اسم حادث لها، وكأنهم شبهوها بالنسر في شكله، لأن الرواقات عن يمينها وشمالها كالأجنحة لها - حفر لأركانها حتى وصلوا إلى الماء وشربوا منه ماء عذباً زلالاً، ثم إنهم وضعوا فيه زيادة الكرم، وبنوا فوقها بالحجارة، فلما ارتفعت الأركان بنوا عليها القبة فسقطت، فقال الوليد لبعض المهندسين: أريد أن تبني لي أنت هذه القبة، فقال: على أن تعطيني عهد الله وميثاقه على أن لا يبنيها أحد غيري، ففعل.
فبنى الأركان ثم غلفها بالبواري، وغاب عنها سنة كاملة لا يدري الوليد أين ذهب، فلما كان بعد السنة حضر، فهمَّ به الوليد فأخذه ومعه رؤوس الناس، فكشف البواري عن الأركان فإذا هي قد هبطت بعد ارتفاعها حتى ساوت الأرض، فقال له: من هذا أتيت، ثم بناها فانعقدت.
وقال بعضهم: أراد الوليد أن يجعل بيضة القبة من ذهب خالص ليعظم بذلك شأن هذا البناء، فقال له المعمار: إنك لا تقدر على ذلك، فضربه خمسين سوطاً، وقال له: ويلك ! أنا لا أقدر على ذلك وتزعم أني أعجز عنه؟ وخراج الأرض وأموالها تجبى إلي؟ قال: نعم أنا أبين لك ذلك، قال: فبين ذلك، قال: اضرب لبنة واحدة من الذهب وقس عليها ما تريد هذه القبة من ذلك، فأمر الوليد فأحضر من الذهب ما ضرب منه لبنة فإذا هي قد دخلها ألوف من الذهب، فقال: يا أمير المؤمنين إنا نريد مثل هذه اللبنة كذا وكذا ألف لبنة، فإن كان عندك ما يكفي من ذلك عملناه.
فلما تحقق صحة قوله أطلق له الوليد خمسين ديناراً، وقال: إني لا أعجز عما قلت، ولكن فيه إسراف وضياع مال في غير وجهه اللائق به، ولأن يكون ما أردنا من ذلك نفقة في سبيل الله، ورداً على ضعفاء المسلمين خير من ذلك. (ج/ص: 9/169)
ثم عقدها على ما أشار به المعمار. ولما سقف الوليد الجامع جعلوا سقفه جملونات، وباطنها مسطحاً مقرنصاً بالذهب، فقال له بعض أهله: أتعبت الناس بعدك في طين أسطحتهم، لما يريد هذا المسجد في كل عام من الطين الكثير - يشير إلى أن التراب يغلو والفعلة تقل لأجل العمل في هذا المسجد في كل عام - فأمر الوليد أن يجمع ما في بلاده من الرصاص ليجعله عوض الطين، ويكون أخف على السقوف.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق