705
السيرة النبوية:عرض وقائع وتحليل أحداث ج 2
الفصل الخامس عشر: غـــــــزوة فتــــح مكـــــة (8هـ)
المبحث الثاني : خطة النبي صلى الله عليه وسلم لدخول مكة وفتحها
ثانيًا: دخول خاشع متواضع، لا دخول فاتح متعالٍ:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام( ), وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح( ) مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز( ), وعندما دخل مكة فاتحًا -وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحي والسياسي- رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد( ) -وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولم يردف أحدا من أبناء بني هاشم وأبناء أشراف قريش وهم كثير، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمانٍ من الهجرة( ).
يقول محمد الغزالي في وصف دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة:
على حين كان الجيش الزاحف يتقدم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته تتوج هامته عمامة دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشع لله، لقد انحنى على رحله وبدا عليه التواضع الجمّ.. إن الموكب الفخم المهيب الذي ينساب به حثيثا إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذي يحف به ينتظر إشارة منه فلا يبقى بمكة شيء آمن، إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل الفصول: كيف خرج مطاردًا؟ وكيف يعود اليوم منصورًا مؤيدًا؟ وأي كرامة عظمى حفه الله بها هذا الصباح الميمون؟ وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعًا وانحناء...( ).
هذا وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تأمين الجبهة الداخلية في مكة عند دخوله يوم الفتح؛ ولذلك عندما بلغته مقولة سعد بن عبادة لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم نستحل الكعبة, قال صلى الله عليه وسلم: «هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة»( )، وأخذ الراية من سعد بن عبادة وسلمها لابنه قيس بن سعد؛ وبهذا التصرف الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها، وفي نفس الوقت لم يثره, ولا أثار الأنصاري، فهو لم يأخذ الراية من أنصاري ويسلمها لمهاجر، بل أخذها من أنصاري وسلمها لابنه، ومن طبيعة البشر ألا يرضى الإنسان بأن يكون أحد أفضل منه إلا ابنه( ).
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: ( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) [الإسراء:81] ( جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) [سبأ:49] والأصنام تتساقط على وجوهها( ) وإنه لمظهر رائع لنصر الله وعظيم تأييده لرسوله، إذ كان يطعن تلك الآلهة الزائفة المنثورة حول الكعبة بعصا معه، فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه أو ينقلب على ظهره جذاذًا( ), ورأى في الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت( ) وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور، وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي يديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله؛ لقد علموا ما استقسما بها قط...»( ).
ثم دخل البيت وكبَّر في نواحيه ثم صلى, فقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقها عليه ثم مكث فيها, قال ابن عمر: فسألت بلالا حين خرج: ما صنع رسول الله؟ قال: جعل عمودين عن يساره وعمودًا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه -وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة- ثم صلى( ).
وكان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة، قبل أن يسلم، فأراد علي ? أن يكون المفتاح له مع السقاية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة ورده إليه قائلا: اليوم يوم بر ووفاء( )، وكان صلى الله عليه وسلم قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول ونال منه، فحلم عنه, وقال: «يا عثمان، لعلك ترى هذا المفتاح يومًا بيدي, أضعه حيث شئت» فقال: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال: «بل عمرت وعزت يومئذ»، ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعًا، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال( ), ولقد أعطى له رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة قائلا له: «هاك مفتاحك يا عثمان, اليوم يوم بر ووفاء( )، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم»( ) وهكذا لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستبد بمفتاح الكعبة، بل لم يشأ أن يضعه في أحد من بني هاشم، وقد تطاول لأخذه رجال منهم، لما في ذلك من الإثارة، ولما به من مظاهر السيطرة وبسط النفوذ، وليست هذه من مهام النبوة بإطلاق... هذا مفهوم الفتح الأعظم في شرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر والوفاء حتى للذين غدروا ومكروا، وتطاولوا( ).
هذا, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يصعد فوق ظهر الكعبة فيؤذن للصلاة, فصعد بلال وأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم في حلم، إن هذه الكلمات تقصف في الجو فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين؛ فلا يملكون أمام دويها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر( ).
ذلك الصوت الذي كان يهمس يومًا ما تحت أسواط العذاب: أحد، أحد، أحد.. ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والكل خاشع منصت خاضع( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق