إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 31 مارس 2014

مقدمة : لعصر الخلفاء الراشدين (1) أبوبكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره




مقدمة :

لعصر الخلفاء الراشدين (1) أبوبكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران : آية 102).

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (سورة النساء، الآية: 1).

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا`يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا`} (سورة الأحزاب، الآيتان:70،71).

أما بعد؛

يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى.

كان شغفي بسيرة الصديق t منذ الطفولة وكنت شديد الولع بالقراءة والسماع لسيرته العطرة ومضت الأيام ومرت السنون، وأكرمني الله تعالى بالدراسة في الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة وكان من ضمن المواد المقررة في مادة التاريخ الاسلامي تاريخ الخلفاء الراشدين، وقد طلب الاستاذ المحاضر أن ندرس كتاب البداية والنهاية لابن كثير، والكامل لابن الأثير في ترجمة الصديق ولم يكتفي بكتاب التاريخ الاسلامي للشيخ محمود شاكر، فكانت لتلك الارشادات أثر بعد توفيق الله تعالى للتعرف على حقيقة شخصية الصديق وعصره، وعندما سجلت بجامعة ام درمان الاسلامية رسالة الدكتوراه وكان عنوانها فقه التمكين في القرآن الكريم وأثره في تاريخ الأمة، استقر البحث على ثلاثة أبواب، فقه التمكين في القرآن الكريم، فقه التمكين في السيرة النبوية، فقه التمكين عند الخلفاء الراشدين، وكانت أوراق البحث قد جاوزت 1200 صفحة، فرأى الدكتور المشرف أن نكتفي بفقه التمكين في القرآن الكريم وعدّل الخطة على هذا الأساس، وقدم مقترحه لمجلس الكلية فوافق على ذلك، وقال لي بعد المناقشة بإذن الله تعالى تستطيع أن تخرج، فقه التمكين في السيرة النبوية، وفقه التمكين عند الخلفاء الراشدين ككتب، لعل الله ينفع بها المسلمون، وبتوفيق الله وبسبب ماساقه من أسباب تطوّر كتاب فقه التمكين في السيرة النبوية وأصبح السيرة النبوية عرض لوقائعها وتحليل لأحداثها.

وهذا الكتاب الذي أقدم له الآن "أبوبكر الصديق شخصيته وعصره" يرجع الفضل في كتابته للمولى عز وجل ثم للأستاذ الدكتور المشرف على رسالة الدكتواره، ومجموعة خيرة من الدعاة والشيوخ والعلماء الذين شجعوني على الاهتمام بدراسة عصر الخلفاء الراشدين، حتى أن أحدهم قال لي أصبحت هناك فجوة كبيرة بين أبناء المسلمين وذلك العصر وحدث خلط في ترتيب الأولويات حيث صار الشباب يلمّون بسير الدعاة والعلماء والمصلحين أكثر من إلمامهم بسيرة الخلفاء الراشدين، وأن ذلك العصر غني بالجوانب السياسية، والإعلامية والأخلاقية والاقتصادية والفكرية، والجهادية والفقهية التي نحن في أشد الحاجة إليها، ونحتاج أن نتتبع مؤسسات الدولة الاسلامية، وكيف تطورت مع مسيرة الزمن، كالمؤسسة القضائية، والمالية، ونظام الخلافة، والمؤسسة العسكرية، وتعيين الولاة وماحدث من اجتهادات في ذلك العصر عندما احتكت الأمة الاسلامية بالحضارة الفارسية والرومانية، وطبيعة حركة الفتوحات الاسلامية.

كانت بداية هذا الكتاب فكرة إراد الله لها أن تصبح حقيقة، فأخذ الله بيدي وسهل لي الأمور، وذلل الصعاب، وأعانني على الوصول للمراجع والمصادر، وأصبح هذا العمل همّاً سيطر على مشاعري، وتفكيري وأحاسيسي، فجعلته من أهدافي الكبرى، فسهرت له الليالي ولم أبالي بالعوائق ولا الصعاب والفضل لله تعالى الذي أعانني على ذلك قال الشاعر:

الهول في دربي وفي هدفي

                   وأظَل أمضي غير مضطربِ

ماكنت من نفسي على خَوَرٍ

                   أو كنت من ربي على رَيبِ

مافي المنايا ماأحاذره

                   الله ملءُ القصد والأَرَبِ

إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليئ بالدروس والعبر وهي متناثرة في بطون الكتب والمصادر والمراجع سواء كانت تاريخية أو حديثية أو فقهية أو أدبية أو تفسيرية، فنحن في أشد الحاجة لجمعها وترتيبها وتوثيقها وتحليلها، فتاريخ الخلافة إذا أحسن عرضه يغذي الأرواح ويهذب النفوس، وينور العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العبر، وينضج الأفكار، فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم وتربيته على منهاج النبوة، ونتعرف على حياة وعصر من قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة التوبة، آية: 100).

وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا....} (سورة الفتح، الآية: 29).

وقال فيهم رسول الله e: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم...)([1]).

وقال فيهم عبدالله بن مسعود: من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لاتؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد، كانوا والله أفضل هذه الأمة، وابرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم([2])، فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم ورووا لها السنن والآثار عن رسول الله e، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والجهاد، وحركة الفتوحات والتعامل مع الشعوب والأمم، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد مايعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح وهدي رشيد وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس، وقد عرف الأعداء من اليهود والنصارى والعلمانيين والماركسيين والروافض وغيرهم خطورة التاريخ وأثره في صياغة النفوس وتفجير الطاقات، فعملوا على تشويهه وتزويره وتحريفه وتشكيك الأجيال فيه، فقد لعبت فيه الأيدي الخبيثة في الماضي وحرفته أيدي المستشرقين في الحاضر، ففي الماضي تعرض تاريخنا الاسلامي للتحريف والتشويه على ايدي اليهود والنصارى والمجوس والرافضة الذين اظهروا الاسلام وأبطنوا الكفر إذ رأوا أن كيد الاسلام على الحيلة أشد نكاية فيه وفي أهله، فأخذوا يدبرون المؤامرات في الخفاء لهدم الاسلام وتفتيت دولته، وتفريق اتباعه، وذلك عن طريق تزيييف الأخبار، وترويج الشائعات الكاذبة وتدبير الفتن ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان t فقام عبدالله بن سبأ اليهودي وأتباعه بالدور الكبير في إشعال نار الفتنة التي أودت بحياة الخليفة الراشدي الثالث، وكذلك إشعال المعركة بين المسلمين في موقعة الجمل بعد أن كاد يتم الصلح بين الطرفين، الى غير ذلك من التحركات والمؤامرات التي قصد بها النيل من الاسلام واتباعه هذا بالإضافة الى الروايات الضعيفة والموضوعة الواردة في مصادر التاريخ الاسلامي -وهي تشوه سيرة الصحابة- كرواية التحكيم التي تتهم بعضهم بالخداع أو الغباء أو التعلق بالجاه والسلطة والهدف من وضع هذه الروايات الطعن في الاسلام بطريقة غير مباشرة لأن الاسلام لم يؤده لنا إلا الصحابة، والتشكيك في ثقتهم وعدالتهم هو تشكيك بالتالي في صحة الاسلام... هذا وقد استغل المستشرقون هذه الروايات الموضوعة -ومن سار على نهجهم من اذنابهم ممن يتكلمون بلغتنا، فركزوا على التوسع في البحث فيها، بل كانت مغنماً تسابقوا الى اقتسامه مادامت تخدم أغراضهم للطعن في الاسلام والنيل من أعراض الصحابة الكرام([3])...لقد قام الأعداء بصياغة تاريخنا وفق مناهجهم المنحرفة وتأثر بعض المؤرخين المسلمين بتلك المناهج المستوردة فأصبحت كتابتهم في العقود الماضية ترجمة حرفية لما كتبه المستشرقون والماركسيون والروافض واليهود وغيرهم من أعداء الأمة، وذلك لأنهم لايملكون تصوراً حقيقياً لروح الاسلام وطبيعته، حيث إن كتابة التاريخ الاسلامي تحتاج حتماً الى إدراك طبيعة الفكرة الاسلامية، ونظرتها الى الحياة والأحداث والأشياء، ووزنها للقيم التي عليها الناس، وتأثيرها في الأرواح والأفكار وصياغتها للنفوس والشخصيات ... ودراسة الشخصيات الاسلامية على وجه خاص- تقتضي إدراكاً كاملاً لطبيعة استجابة الشخصيات الاسلامية لإيحاءات الفكرة الاسلامية، فإن طريقة استجابة تلك الشخصيات لهذه الإيحات، مسألة هامة في صياغة شعورها بالقيم وسلوكها في الحياة، وتفاعلها مع الأحداث، ولن يدرك طبيعة الفكرة الاسلامية، ولا طريقة استجابة الشخصيات الاسلامية لها إلا كاتب مؤمن بهذه الفكرة مستجيب لها من أعماقه لكي يكون ادراكه لها ناشئاً عن تلبس ضميره بها، لا عن رصدها من الخارج، بالذهن المتجرد البارد([4]).

وبسبب غياب ذلك المنهج وقع بعض المعاصرين من المؤرخين والكتّاب والأدباء في تشويه صورة سلف هذه الأمة، وأظهروا الصحابة بمظهر التكالب على الدنيا وسفك الدماء للوصول الى الغايات التي ينشدوها من الاستيلاء على الحكم والتنكيل بخصومهم، فتناولوا ذلك بعيداً عن فهم حقيقة الجيل الذي تربى في مدرسة المصطفى e وبعيداً عن تأثرهم بالاسلام وعقيدته وأصوله وبسبب تلك الكتابات نشأ جيل لايعرف عن تاريخه إلا الحروب وسفك الدماء  والخداع والمكر والحيلة، وأصبحت صورة الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً مشوهة مما جعل بعض المسلمين يردد تلك الأباطيل دون أن يعي الحقيقة، بل مجرد أن تلك الأباطيل مسطرة في كتاب زيد أو عمرو من الكتّاب([5]).

إن إعادة كتابة التاريخ الاسلامي بمنهج أهل السنّة والجماعة أصبح ضرورة ملحة لأبناء الأمة وقد بدأت أقلام الباحثين والكتّاب تصيغ التاريخ من هذا المنظور وهم لم يبدوا من فراغ، لأن الله حمى دينه وحمى أمته فقيض لتاريخ الصحابة من يحقق وقائعه ويصحح أخباره ويكشف الستار عن الوضاعين والكذابين من ملقفي الأخبار ويرجع الفضل في ذلك التصحيح الى الله ثم أهل السنّة والجماعة من أئمة الفقهاء والمحدثين الذين حفلت مصادرهم بالكثير من الإشارات والروايات الصحيحة التي تنقض وترد كل ماوضعه الملفقون([6]). وقد سرت على أصول منهج أهل السنّة، فعكفت على المصادر والمراجع القديمة والحديثة ولم أعتمد في دراسة عصر الخلفاء الراشدين على الطبري وابن الأثير والذهبي وكُتب التاريخ المشهورة فقط، بل رجعت الى كتب التفسير، والحديث وشروحها، وكتب التراجم والجرح والتعديل ، وكتب الفقه، فوجدت فيها مادة تاريخية غزيرة يصعب الوقوف على حقيقتها في الكتب التاريخية المعروفة والمتداولة وقد بدأت بالكتابة عن أبي بكر الصديق t متناولاً شخصيته وعصره، فهو سيد الخلفاء الراشدين وقد حثنا رسول الله e وأمرنا باتباع سنتهم والإهتداء بهديهم. قال e: (عليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)([7])، فأبوبكر t سيد الصديقين وخير الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين، فهو أفضل أصحاب رسول الله e وأعلمهم وأشرفهم على الاطلاق فقد قال فيه رسول الله e: (لو كنت متخذاً خليلاً لأتخذت أبابكر، ولكن أخي وصاحبي)([8])، وقد قال فيه رسول الله e وفي عمر أيضاً: (اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر)([9])، وشهد له عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بقوله: أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا الى رسول الله e([10])، وقال عنه علي بن أبي طالب t لما ساله ابنه محمد بن الحنفية بقوله : أي الناس خير بعد رسول الله ؟ قال t: أبو بكر([11]).

إن حياة أبي بكر t صفحة مشرقة من التاريخ الاسلامي، الذي بهر كل تاريخ وفاقه، والذي لم تَحْوِ تواريخ الأمم مجتمعة بعض ماحوى من الشرف والمجد، والإخلاص والجهاد والدعوة لأجل المبادئ السامية لذلك قمت بتتبع أخباره وحياته وعصره في المراجع والمصادر واستخرجتها من بطون الكتب وقمت بترتيبها وتنسيقها وتوثيقها وتحليلها لكي تصبح في متناول الدعاة والخطباء والعلماء والساسة ورجال الفكر وقادة الجيوش، وحكام الأمة وطلاب العلم، لعلهم يستفيدون منها في حياتهم، ويقتدون بها في أعمالهم فيكرمهم الله بالفوز في الدارين.

لقد تتبعت صفات الصديق وفضائله ومشاهده في ميادين الجهاد مع  رسول الله e، وحياته في المجتمع المدني ومواقفه العظيمة بعد وفاة رسول الله وكيف ثبت الله به الأمة؟ وسلطت الأضواء على سقيفة بني ساعدة وماتم فيها من حوار ونقاش بين المهاجرين والأنصار، ونسفت الشبهات والأباطيل التي ألصقت بتاريخ سقيفة بني ساعدة، من قِبَل المستشرقين والروافض ومن سار على نهجهم، وبينت موقف الصديق من إرسال جيش اسامة ومافي هذا الحدث العظيم من دروس في الشورى، والدعوة والحزم، والاقتداء برسول الله e، وردّ الخلاف إلى الكتاب والسنّة، وآداب الجهاد وصورته المشرقة التي تمثلت في تعاليم الصديق لجيش أسامة رضي الله عنهم، وقد قمت بتوضيح أحداث الردة، فتحدثت عن أسبابها وأصنافها، وبدأيتها في أواخر العصر النبوي، وموقف الصديق منها في خلافته، وخطته التي وضعها للقضاء عليها وأساليبه التي استخدمها في حروبه ضد المرتدين، وقد وقفت مع مؤهلات الصديق التي توفرت في شخصيته والتي استطاع بها -بعد توفيق الله- أن يسحق حركة الردة، وقد تحدثت عن عصره وكيف تحققت شروط التمكين وأسبابه وصفات جيل التمكين في ذلك العهد الذي قاده الصديق؟ وأشرت إلى سياسة الصديق في محاربة التدخل الأجنبي في دولته، وذكرت أهم نتائج أحداث الردة، من تميز الإسلام عما عداه من تصورات وأفكار وسلوك، وضرورة وجود قاعدة صلبة للمجتمع، وتجهيز الجزيرة كقاعدة للفتوح الإسلامية، والإعداد القيادي لحركة الفتوح، والفقه الواقعي للردة، وسنة الله في إحاقة المكر السيء بأهله، واستقرار النظام الإداري في الجزيرة، وتكلمت عن فتوحات الصديق، فبينت خطته في فتح العراق، وسرت مع خالد في فتوحاته حتى ضم جنوب العراق  وشماله بمعاركه العظيمة التي ظهرت فيها بطولات نادرة من المثنى بن حارثة والقعقاع بن عمرو وخالد بن الوليد وجيوشهم المظفرة، فكانت تلك المعارك الخطوة الأولى لمعارك الفتوح الكبرى التي جاءت بعد عصر الصديق والتي أنارت تاريخ الأمة في مشوارها الطويل لنشر دين الله والجهاد في سبيله قال الشاعر:

فالقادسية مايزال حديثُها

                   عِبَرٌ تضيء بأطيب الألوان

تحكي مفاخَرنا وتذكر مجدَنا

                   فتجيبها حِطّين بالمنوال

صفحات مجد في الخلود سطورُها

                   دان الرجال لها بغير جدال

وكأنني بابن الوليد وجنده

                   وبكلِّ كفٍّ لامع الأنصال

نشروا على أرض الخليل لواءهم

                   فغدا يظلّلُ أطهر الأطلال

وعن اليمين أبو عبيدة قد أتى

                   وأتى صلاح الدين صوبَ شمال

يَسعى إليهم قد شَرَوْا أرواحهم

                   لله بعد تسابق لقتال

فهم الأعزّةُ في كتاب خالدٍ

                   مابعد قول الله من أقوال

هذا وقد حرصت على بيان وإظهار الرسائل التي كانت بين الصديق وخالد بن الوليد، وعياض بن غنم رضي الله عنهم المتعلقة بفتوح العراق، وقد فصلت الخطوات التي سار عليها أبو بكر في فتوحات الشام، فتحدثت عن عزمه في غزو الروم ومشورته لكبار الصحابة في جهادهم، وعن استنفاره لأهل اليمن، وخطته في إرسال الجيوش ووصاياه للقادة الذين بعثهم لفتح الشام، ومتابعته لهم وإمدادهم بالرجال والعتاد، والتموين، ونقله لخالد من ميادين العراق إلى قيادة جيوش الشام، وماتمّ في معركة اجنادين واليرموك، واستخرجت من حركة الفتوحات بعض معالم الصديق في سياسته الخارجية، من بذر هيبة الدولة في نفوس الأمم، ومواصلة الجهاد الذي أمر به النبي e، والعدل بين الأمم المفتوحة والرفق بأهلها، ورفع الإكراه عنهم وإزالة الحواجز البشرية بينهم وبين الدعاة ووضحت بعض معالم التخطيط الحربي عند الصديق، في عدم الإيغال في بلاد العدو حتى تدين للمسلمين، وعن قدرته في التعبئة وحشد القوات، وتنظيم عملية الإمداد المستمرة، وتحديد هدف الحرب، وإعطاؤه الأفضلية لمسارح العمليات، وعزله لميدان المعركة، وتطويره لأساليب القتال، وحرصه على سلامة خطوط الإتصال بينه وبين قادة الجيوش، وبينت حقوق الله، والقادة والجنود من خلال وصاياه التي ألزم بها قادة حربه، وتحدثت عن استخلافه لعمر وعن أيامه الأخيرة في هذه الحياة الفانية وعن آخر ماتكلم به الصديق في هذه الدنيا بقول الله تعالى:{ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.

لقد حاولت في هذا الكتاب أن أبين كيف فهم الصديق الإسلام، وعاش به في دنيا الناس؟ وكيف أثر في مجريات الأمور في عصره؟ وتحدثت عن جوانب شخصيته المتعددة، السياسية، والعسكرية، والإدارية، وعن حياته في المجتمع الإسلامي لما كان أحد رعاياه وبعد أن أصبح خليفة رسول الله، وركزت على دور أبي بكر الصديق كرجل دولة مميز من الطراز النادر وعن سياسته الداخلية والخارجية وأساليبه الإدارية، وعن مؤسسة القضاء كيف كانت بدايتها في عصره لكي نستطيع متابعة التطورات التي حدثت لها ولغيرها من مؤسسات الدولة عبر العصر الراشدي والتاريخ الإسلامي.

إن هذا الكتاب يبرهن على عظمة أبي بكر الصديق t، ويثبت للقارئ بأنه كان عظيماً بإيمانه، عظيما بعلمه، عظيما بفكره، عظيما ببيانه، عظيما بخلقه، عظيماً بآثاره فقد جمع الصديق العظمة من أطرافها وكانت عظمته مستمدة من فهمه، وتطبيقه للإسلام وصلته بالله العظيمة واتباعه الشديد لهدي الرسول الكريم e، إن أبا بكر t من الأئمة الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، فسيرته من أقوى مصادر الإيمان، والعاطفة الإسلامية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين، فلذلك اجتهدت في دراسة شخصيته وعصره حسب وسعي وطاقتي، غير مدع عصمة، ولامتبرئ من زلة ووجه الله الكبير لاغيره قصدت، وثوابه أردت، وهو المسئول في المعونة عليه، والانتفاع به إنه طيب الأسماء، سميع الدعاء،هذا وقد قمت بتقسيم هذا الكتاب إلى مقدمة وأربعة فصول وخلاصة وهي كالآتي:

المقدمة:

الفصل الأول: أبو بكر الصديق t في مكة ويشتمل على خمسة مباحث.

المبحث الأول: إسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته وأسرته وحياته في الجاهلية.

المبحث الثاني: إسلامه ودعوته وابتلاؤه وهجرته الأولى.

المبحث الثالث: هجرته مع رسول الله إلى المدينة.

المبحث الرابع: الصديق في ميادين الجهاد.

المبحث الخامس: الصديق في المجتمع المدني وبعض صفاته وشيء من فضائله.

الفصل الثاني: وفاة الرسول e، وسقيفة بني ساعدة، ويشتمل على مبحثين:

المبحث الأول: وفاة الرسول e وسقيفة بني ساعدة.

المبحث الثاني: البيعة العامة وإدارة الشئون الداخلية.

الفصل الثالث: جيش أسامة وجهاد الصديق لأهل الردة ويشتمل على خمسة مباحث:

المبحث الأول: جيش أسامة t.

المبحث الثاني: جهاد الصديق لأهل الردة.

المبحث الثالث: الهجوم الشامل على المرتدين.

المبحث الرابع: مسيلمة الكذاب وبنو حنيفة.

المبحث الخامس: أهم العبر والدروس والفوائد من حروب الردة.

الفصل الرابع: فتوحات الصديق واستخلافه لعمر ووفاته ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: فتوحات العراق.

المبحث الثاني: فتوحات الصديق بالشام.

المبحث الثالث: أهم الدروس والعبر والفوائد.

المبحث الرابع: استخلاف الصديق لعمر بن الخطاب ووفاته.

هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الجمعة بعد صلاة العشاء بتاريخ 5 من شهر المحرم لعام 1422هـ الموافق 30/مارس من عام 2001م والفضل لله من قبل ومن بعد وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل قبولا حسناً وأن يكرمنا برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة فاطر، آية:2).

ولايسعني في نهاية هذه المقدمة إلا أن أقف بقلب خاشع منيب بين يدي الله عزوجل، معترفاً بفضله وكرمه وجوده، فهو المتفضِّل وهو المكرم، وهو المعين، وهو الموفِّق، فله الحمد على مامنّ به عليّ أولاً وآخراً، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً، ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانونني بكافة مايملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لاينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.



                                     الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورضوانه

                                     علي محمد محمد الصَّلاَّبي

                                                 5/1/1422هـ

           





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) مسلم (4/1963-1964).

([2]) شرح السنّة للبغوي (1/214-215).

([3]) انظر: مقدمة الاستاذ سيد قطب لكتاب خالد بن الوليد للشيخ صادق عرجون، ص5.

([4]) انظر: مقدمة الاستاذ سيد قطب لكتاب خالد بن الوليد للشيخ صادق عرجون، ص5.

([5]) انظر: ابوبكر رضي الله عنه، محمد مال الله، ص15،16.

([6]) انظر: المنهج الاسلامي لكتابة التاريخ، د. محمد المحزون، ص4.

([7]) سنن ابي داود (4/201)؛ الترمذي (5/44) حديث حسن صحيح.

([8]) البخاري، كتاب فضائل الصحابة رقم 3656.

([9]) صحيح سنن الترمذي للألباني (3/200).

([10]) البخاري، كتاب فضائل الصحابة رقم 3668.

([11]) البخاري، كتاب فضائل الصحابة رقم 3671.



يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق