704
السيرة النبوية:عرض وقائع وتحليل أحداث ج 2
الفصل الخامس عشر: غـــــــزوة فتــــح مكـــــة (8هـ)
المبحث الثاني : خطة النبي صلى الله عليه وسلم لدخول مكة وفتحها
أولاً: توزيع المهام بين قادة الصحابة:
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي طوى( ) وزع المهام، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة( ) وبطن الوادي، فقال: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار» فدعاهم فجاءوا يهرولون، فقال: «يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟» قالوا: نعم، قال: «انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا» وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال: «موعدكم الصفا»( ).
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم, وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأمره أن يغرز رايته بالحجون, ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم( ). وبهذا كانت المسئوليات واضحة، وكل قد عرف ما أسند إليه من مهام والطريق الذي ينبغي أن يسير فيه( ).
ودخلت قوات المسلمين مكة من جهاتها الأربع في آنٍ واحدٍ, ولم تلق تلك القوات مقاومة، وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربة قاضية لفلول المشركين، حيث عجزت عن التجمع, وضاعت منها فرصة المقاومة، وهذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد، ونجحت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم يستطع المشركون المقاومة، ولا الصمود أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى، فاحتل كل فيلق منطقته التي وجه إليها، في سلم واستسلام، إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد( ), فقد تجمع متطرفو قريش ومنهم صفوان بن أمية, وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان اسمه (الخندمة) وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام, وصمموا على القتال، فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالانقضاض عليهم, وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة الضعيفة وشتت شمل أفرادها، وبذلك أكمل الجيش السيطرة على مكة المكرمة( ). وقد حدثتنا كتب السيرة والتاريخ عن قصة حماس بن خالد من قبيلة بني بكر، فقد أعد سلاحًا لمقاتلة المسلمين، وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهده تسأله: لماذا تعدُّ ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، وقالت امرأته له يومًا: والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وصحبه شيء، فقال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم.. ثم قال:
هذا سلاح كامل وألَّة( )
إن يقبلوا اليوم فما لي علة
وذو غرارين سريع السلة
فلما جاء يوم الفتح ناوش حماس هذا شيئًا من قتال مع رجال عكرمة, ثم أحس بالمشركين يتطايرون من حوله أمام جيش خالد، فخرج منهزمًا حتى بلغ بيته فقال لامرأته: أغلقي عليَّ الباب...
فقالت المرأة لفارسها المعلم: فأين ما كنت تقول؟
فقال يعتذر لها:
إنك لو شهدت يوم الخندمة
إذ فر صــفوان وفــر عكرمة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة( )
واستقبلتهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضربًا فلا تسمع إلا غمغمة
لهم نهيتٌ( ) خلفنا وهمهمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمة( )
لقد أعلن في مكة قبيل دخول جيش المسلمين أسلوب منع التجول؛ لكي يتمكنوا من دخول مكة بأقل قدر من الاشتباكات والاستفزازات، وإراقة الدماء، وكان الشعار المرفوع: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، وجعل صلى الله عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون أبو سفيان ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدوء, ويستخدمه كمفتاح أمان يفتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء, ويشبع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو سفيان حتى يتمكن الإيمان من قلبه( ).
لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعًا ونادى بأعلى صوته:
يا معشر قريش, هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميث الدسم الأحمس -تشبهه بالزق لسمنه-، قبح من طليعة قوم. قال: ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؟! قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد( ).
وحرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكداء التي بأعلى مكة( ) تحقيقًا لقول صاحبه الشاعر المبدع حسان بن ثابت, حين هجا قريشا وأخبرهم بأن خيل الله تعالى ستدخل من كداء, وتعد هذه القصيدة من أروع ما قال حسان, حيث قال:
تثير النقع( ) موعدها كداء
عدمنا خيلنا إن لم تروها
على أكتافها الأسل الظماء
ينازعن الأعنة مصغيات
يلطمهن بالخُمُرِ النساء
تظل جيادنا متمطرات
وكان الفتح وانكشف الغطاء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا
يعز( ) الله فيه من يشاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
وروح القدس ليس له كفاء
وجبريل رسول الله فينا
يقول الحق إن نفع البلاء
وقال الله قد أرسلت عبدا
فقلتم لا نقوم ولا نشاء
شهدت به فقوموا صدقوه
هم الأنصار عرصتها اللقاء
وقال الله قد سيرت جندًا
سباب أو قتال أو هجاء
لنا في كل يوم من معد
ونضرب حين تختلط الدماء
فنحكم بالقوافي من هجانا
مغلغلة( ) فقد برح الخفاء
ألا أبلغ أبا سفيان عني
وعبد الدار سادتها الإماء
بأن سيوفنا تركتك عبدًا
وعند الله في ذاك الجزاء
هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه
فشركما لخيركما الفداء
أتهجوه ولست له بكفء؟!
أمين الله شيمته الوفاء
هجوت مباركًا برًّا حنيفًا
ويحمده وينصره سواء
أمن يهجو رسول الله منكم
لعرض محمد منكم وقاء
فإن أبي ووالده وعرضي
وبحري لا تكدره الدلاء( )
لساني صارم لا عيب فيه
ومما يؤيد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دخوله من كداء ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر( )؛ فتبسم إلى أبي بكر فقال: «يا أبا بكر, كيف قال حسان؟» فأنشده قوله:
تلطمهن بالخُمُر النساء( )
تظل جيادنا متمطرات
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق