إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 29 مارس 2014

703 السيرة النبوية:عرض وقائع وتحليل أحداث ج 2 الفصل الخامس عشر: غـــــــزوة فتــــح مكـــــة (8هـ) المبحث الأول : أسبابها، والاستعداد للخروج والشروع فيه ثالثًا: الشروع في الخروج وأحداث في الطريق:



703


السيرة النبوية:عرض وقائع وتحليل أحداث ج 2

الفصل الخامس عشر: غـــــــزوة فتــــح مكـــــة (8هـ)

المبحث الأول : أسبابها، والاستعداد للخروج والشروع فيه

ثالثًا: الشروع في الخروج وأحداث في الطريق:


1- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدًا مكة في العاشر من رمضان من العام الثامن للهجرة( ) واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري( ) وكان عدد الجيش عشرة آلاف فيهم المهاجرون والأنصار الذين لم يتخلف منهم أحد، فسار هو ومن معه إلى مكة يصوم ويصومون, فلما وصل الجيش الكديد (الماء الذي بين قديد وعسفان) أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر الناس معه( ) وفي الجحفة لقيه العباس بن عبد المطلب عمه وقد خرج مهاجرًا بعياله, فسر صلى الله عليه وسلم( ). وفي خروج العباس بأهله وأولاده من مكة -وكان بها بمثابة المراسل العسكري أو مدير الاستخبارات هناك- إشارة إلى أن مهمته فيها قد انتهت, وخاصة إذا لاحظنا أن بقاءه في مكة كان بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم( ).

2- إسلام أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أمية:

خرج أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية بن المغيرة من مكة, فلقيا رسول الله بثنية العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك، فقال: لا حاجة لي فيهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال، فلما خرج الخبر إليهما بذلك -ومع أبي سفيان بن الحارث ابن له- فقال: والله ليأذنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لهما، فدخلا عليه، فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره عما كان مضى فيه فقال:
لتغلب خيل اللات خيل محمد
        لعمرك إني يوم أحمل راية

فهذا أوان الحق أهدي وأهتدي
        لكالمدلج الحيران أظلم ليله

وقل لثقيف تلك عندي فأوعدي
        فقل لثقيف لا أريد قتالكم

إلى الله من طرَّدت كل مطرد
        هداني هاد غير نفسي ودلني

وأدعى وإن لم أنتسب لمحمد
        أفر سريعًا جاهدًا عن محمد

وإن كان ذا رأي يُلَمْ ويفند
        همُ عصبة من لم يقل بهواهم

مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
        أريد لأرضيهم ولست بلاقط

وما كان عن غير لساني ولا يدي
        فما كنت في الجيش الذي نال عامرا

توابع جاءت من سهام وسردد
        قبائل جاءت من بلاد بعيدة

سيسعى لكم امرؤ غير مقدد( )
        وإن الذي أخرجتم وشتمتم

قال: فلما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى الله من طردت كل مطرد)، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، فقال: «أنت طردتني كل مطرد»( ).
كان أبو سفيان بن الحارث يهجو بشعره رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وأما عبد الله بن أمية فقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله لا أومن بك حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك كما تقول, ثم وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك)( ).
ومع فداحة جرمهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهما وقبل عذرهما، وهذا مثال عالٍ في الرحمة والعفو والتسامح، ولقد كفَّر أبو سفيان بن الحارث عن أشعاره السابقة بهذه القصيدة البليغة التي قالها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وبيان اهتدائه به، ولقد حسن إسلامه، وكان له موقف مشرف في الجهاد مع رسول الله في معركة حنين( ).

3- النزول بمر الظهران وإسلام أبي سفيان بن حرب سيد قريش:

وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره حتى أتى مر الظهران( ) فنزل فيه عشاء، فأمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله على الحرس عمر بن الخطاب( ).
قال العباس: فقلت: واصباح قريش! والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، وركب بغلة رسول الله وخرج يلتمس من يوصل الخبر إلى مكة ليخرجوا إلى رسول الله فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، وكان أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد خرجوا يلتمسون الأخبار، فلما رأوا النيران قال أبو سفيان: ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا، فقال بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب( )، فقال أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.. وسمع العباس أصواتهم فعرفهم فقال: يا أبا حنظلة، فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، قال: ما لك، فداك أبي وأمي؟! قال العباس: قلت: ويحك يا أبا سفيان, هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس واصباح قريش والله! قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟! قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله, إني قد أجرته. فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر، فوالله أن لو كان من بني عدي ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به», فلما أصبح غدوت به, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟» قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد، قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن نضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس: قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا, قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» فلما ذهب لينصرف قال رسول الله: «يا عباس, احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها» قال: فخرجت حتى حبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم, فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة, فيقول: ما لي ولمزينة.. حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم قال: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك
اليوم عظيمًا. قال: قلت: يا أبا سفيان: إنها النبوة، قال: فنعم إذن، قال: قلت: النجاء
إلى قومك( ).
إن في هذه القصة دروسا وعبرا وحكما في كيفية معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفوس البشرية ومن أهم هذه الدروس:

1- عندما أصبح أبو سفيان رهينة بيد المسلمين، وأصبح رهن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم، وهمَّ به عمر، وأجاره العباس، ثم جاء في صبيحة اليوم الثاني ليمثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت المفاجأة الصاعقة له بدل التوبيخ والتهديد والإذلال أن يدعى إلى الإسلام، فتأثر بهذا الموقف واهتز كيانه؛ فلم يملك إلا أن يقول: بأبي أنت وأمي يا محمد، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! إنه يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه، ويثني عليه الخير كله: ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!( ) وعندما قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ففي تخصيص بيت أبي سفيان شيئًا يشبع ما تتطلع إليه نفس أبي سفيان، وفي هذا تثبيت له على الإسلام وتقوية لإيمانه( ) وكان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملا على امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان, وبرهن له بأن المكانة التي كانت له عند قريش، لن تنتقص شيئا في الإسلام، إن هو أخلص له وبذل في سبيله( ) وهذا منهج نبوي كريم على العلماء والدعاة إلى الله أن يستوعبوه ويعملوا به في تعاملهم مع الناس.

2- وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس عن أبي سفيان: «احبسه بمضيق الوادي، حتى تمر به جنود الله فيراها»( ) ففعل العباس, وكان صلى الله عليه وسلم يريد أن يشن حربًا نفسية للتأثير على معنويات قريش حتى يتسنى له القضاء على روح المقاومة عند زعيم مكة، وحتى يرى أبو سفيان بعيني رأسه مدى قوة ما وصل إليه الجيش الإسلامي من تسليح وتنظيم وحسن طاعة وانضباط؛ وبذلك تتحطم أي فكرة في نفوس المكيين يمكن أن تحملهم على مقاومة هذا الجيش المبارك إذا دخل مكة لتحريرها من براثن الشرك والوثنية( ), وبالفعل تم ما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأدرك أبو سفيان قوة المسلمين، وأنه لا قبل لقريش بهم, حتى إذا مرت به كتيبة المهاجرين والأنصار قال أبو سفيان: سبحان الله! يا عباس, من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: نعم إذاً....( ).

«إنها النبوة»؛ تلك هي الكلمة التي أدارتها الحكمة الإلهية على لسان العباس، حتى تصبح الرد الباقي إلى يوم القيامة على كل من يتوهم أو يوهم أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت ابتغاء ملك أو زعامة، أو إحياء قومية أو عصبية, وهي كلمة جاءت عنوانًا لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، فقد كانت ساعات عمره ومراحلها كلها دليلاً ناطقا على أنه بعث لتبليغ رسالة الله إلى الناس، لا لإشادة ملك لنفسه في الأرض( ).
لقد تعمد النبي صلى الله عليه وسلم شن الحرب النفسية على أعدائه أثناء سيره لفتح مكة, حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيقاد النيران فأوقدوا عشرة آلاف نار في ليلة واحدة حتى ملأت الأفق, فكان لمعسكرهم منظر مهيب كادت تنخلع قلوب القريشيين من شدة هوله( ), وقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحطيم نفسيات أعدائه والقضاء على معنوياتهم حتى لا يفكروا في أية مقاومة، وإجبارهم على الاستسلام لكي يتم له تحقيق هدفه دون إراقة دماء، وبتطبيق هذا الأسلوب تم له صلى الله عليه وسلم ما أراد، ولقد كان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بمعنويات المقاتل ونفسيته سبقًا عسكريًّا؛ بدليل أن المدارس العسكرية التي جاءت فيما بعد جعلت هذا الأمر موضع العناية والاهتمام من الناحية العسكرية( ).


* * *


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق