701
السيرة النبوية:عرض وقائع وتحليل أحداث ج 2
الفصل الخامس عشر: غـــــــزوة فتــــح مكـــــة (8هـ)
المبحث الأول : أسبابها، والاستعداد للخروج والشروع فيه
أولاً: أسبابها:
1- ارتكبت قريش خطأ فادحًا عندما أعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين بالخيل والسلاح والرجال، وهاجم بنو بكر وحلفاؤهم قبيلة خزاعة عند ماء يقال له الوتير، وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها( ), ولما لجأت خزاعة إلى الحرم الآمن
-ولم تكن متجهزة للقتال- لتمنع بني بكر منه، قالت لقائدهم: يا نوفل، إنا قد دخلنا حرم إلهك! فقال نوفل: لا إله اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم( ), عندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي، في أربعين من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأخبروه بما كان من بني بكر، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريش بني بكر عليهم، ووقف عمرو بن سالم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
يا رب إني ناشدٌ محمدًا
ثُمت أسلمنا فلم ننزع يدا( )
قد كنتم وُلدًا، وكنا والدًا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فانصر -هداك الله- نصرًا أعتدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
فيهم رسول الله قد تجردا
إن قريشًا أخلفوك الموعدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدًا
وجعلوا لي في (كَدَاءِ) رُصَّدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وهم أذل وأقل عددا
وزعموا أن لست أدعو أحدا
وقتلونا ركَّعا وسُجَّدا
هم بيتونا بالوتير هجّدا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نُصرت يا عمرو بن سالم! ( ) لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب» ولما عرض السحاب من السماء قال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب( ).
وجاء في رواية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع وتأكد من الخبر أرسل إلى قريش فقال لهم: «أما بعد، فإنكم إن تبرؤوا من حلف بني بكر، أتُدوا خزاعة( )، وإلا أوذنكم بحرب» فقال قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف صهر معاوية: إن بني بكر قوم مشائيم، فلا ندى ما قتلوا لنا سبد، ولا لبد( )، ولا نبرأ من حلفهم فلم يبق على ديننا أحد غيرهم، ولكن نؤذنه بحرب( ).
وفي هذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفاجئ قريشًا بالحرب وإنما خيرَّهم بين هذه الخصال الثلاث فاختاروا الحرب( ).
2- أبو سفيان يحاول تلافـي حماقة قريش:
بعثت قريش أبا سفيان إلى المدينة لتمكين الصلح وإطالة أمده, وعندما وصل إلى المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض حاجته، أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجبه، فاستعان بكبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى يتوسطوا بينه وبين رسول الله، فأبوا جميعًا، فعاد أبو سفيان إلى مكة من غير أن يحظى بأي اتفاق أو عهد( )، ومما يذكر عند نزوله في المدينة أنه دخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين، وأراد أن يجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال: يا بنية, ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟! قالت: بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس، قال: والله لقد أصابك بعدي شر( ).
وهذا الموقف لا يستغرب من أم حبيبة، فهي ممن هاجر الهجرتين وقد قطعت صِلاتها بالجاهلية منذ أمد بعيد، إنها لم تر أباها منذ ست عشرة سنة، فلما رأته لم تر فيه الوالد الذي ينبغي أن يقدر ويحترم، وإنما رأت فيه رأس الكفر الذي وقف في وجه الإسلام وحارب رسوله تلك السنوات الطويلة( ), وهذا ما كان يتصف به الصحابة رضي الله عنهم من تطبيق أحكام الإسلام في الولاء والبراء وإعزاز الإسلام والمسلمين. وفي مخاطبة أم حبيبة لأبيها بهذا الأسلوب -مع كونه أباها ومع مكانته العالية في قومه وعند العرب- دليلٌ على قوة إيمانها ورسوخ يقينها، لقد كان في سلوك أم حبيبة مظهر من اجتهاد الصحابة البالغ في إظهار أمر له أهميته البالغة في المحافظة على شخصية المسلم ودفع معنوياته إلى النماء والحيوية( ).
وأمام نقض قريش للعهود والمواثيق مع المسلمين فقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة وتأديب كفارها، وقد ساعده على ذلك العزم -بعد توفيق الله- عدة أسباب منها:
أ- قوة جبهة المسلمين الداخلية في المدينة وتماسكها: فقد تخلصت الدولة الإسلامية من غدر اليهود، وتم القضاء على يهود بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة, ويهود خيبر.
ب- ضعف جبهة الأعداء في الداخل: وفي مقدمة هؤلاء المنافقون الذين فقدوا الركن الركين لهم -وهو يهود المدينة- فهم أساتذتهم الذين يوجهونهم ويشيرون عليهم.
ج- اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطوير القوة العسكرية، وإرسال السرايا في فترة الصلح؛ وبذلك أصبحت متفوقة على قوة مشركي قريش حيث العدد والعدة والروح المعنوية.
د- كانت الغزوة بعد أن ضعفت قريش اقتصاديًّا وبعد أن قويت الدولة الإسلامية اقتصاديًّا, فقد فتح المسلمون خيبر وغنموا منها أموالاً كثيرة.
هـ- انتشار الإسلام في القبائل المجاورة للمدينة، وهذا يطمئن القيادة حين تتخذ قرارها العسكري بنقل قواتها ومهاجمة أعدائها.
و- قيام السبب الجوهري والقانوني لغزو مكة, وهو نقض قريش للعهد والعقد( ). ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضيع قانون الفرصة وتعامل معه بحكمة بالغة، فكان فتح خيبر, وذلك بعد صلح الحديبية، والآن تتاح فرصة أخرى بعد أن نقضت قريش عهدها، وتغيرت موازين القوى في المنطقة، فكان لا بد من الاستفادة من المعطيات الجديدة، فأعد صلى الله عليه وسلم جيشًا لم تشهد له الحجاز مثيلاً من قبل، فقد وصلت عدته إلى عشرة آلاف رجل( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق