762
السيرة النبوية:عرض وقائع وتحليل أحداث ج 2
الفصل السابع عشر: غزوة تبوك (9هـ), وهي غزوة العسرة
المبحث الرابع :قصة الثلاثة الذين خلفوا
وفي هذه القصة دروس وعبر وفوائد كثيرة نذكر منها:
1- الأسلوب الجميل والبيان الرائع والأدب الرفيع:
لقد تمت صياغة هذا الحديث بأسلوب جميل، وبيان رائع، وأدب رفيع، وإنه ليعتبر
-مع أمثاله كحديث صلح الحديبية وحديث الإفك- نماذج عالية للأدب العربي الرفيع, وليت القائمين على وضع المناهج الدراسية يختارون هذه الأحاديث وأمثالها لتنمية مدارك الطلاب, وتكوين الملكة الأدبية والثروة اللغوية العالية، انظر مثلا إلى قول كعب في هذا الحديث: فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب؛ فأجمعت صدقه( ).
2- الصدق سفينة النجاة:
لقد أدرك كعب, وهلال، ومرارة -رضي الله عنهم- خطورة الكذب فعزموا على سلوك طريق الصراحة والصدق وإن عرضهم ذلك للتعب والمضايقات، ولكن كان أملهم بالله -تعالى- كبيرًا في أن يقبل توبتهم ثم يعودون إلى الصف الإسلامي أقوى مما كانوا عليه( ), وما أجمل ختم رب العالمين توبته على كعب ومن معه بقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) [التوبة: 119].
3- الهجر التربوي وأثره في المجتمع:
إن الهجر التربوي له منافعه العظيمة في تربية المجتمع المسلم على الاستقامة ومنع أفراده من التورط في المخالفات التي تكون إما بترك شيء من الواجبات أو فعل شيء من المحرمات؛ لأن من توقع أنه إذا وقع في شيء من ذلك سيكون مهجورا من جميع أفراد المجتمع, فإنه لن يفكر في الإقدام على ذلك.
ولا يغيب عن البال أن تطبيق هذا الحكم يجب أن يتم في الظروف المشابهة لحياة المسلمين في العهد النبوي المدني، حيث توجد الدولة المهيمنة والمجتمع القوي, مع أمن الوقوع في الفتنة لمن طبق عليه هذا الحكم.
وهذا الهجر التربوي يختلف عن الهجر الذي يكون بين المسلمين على أمور الدنيا, فهذا دنيوي وذاك ديني، فالهجر الديني مطلب شرعي يثاب عليه فاعله، أما الهجر الدنيوي فإنه مكروه إلا إذا زاد عن ثلاثة أيام فإنه يكون محرما( ) لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ, يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا, وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» ( ) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه»( ).
4- تنفيذ أوامر القيادة في المجتمع المسلم:
استجاب المجتمع المسلم كله لتنفيذ أمر المقاطعة والهجر الذي صدر من القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم وامتنعوا جميعا عن الحديث مع هؤلاء الثلاثة, ووصف كعب لنا ذلك فقال:... فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف, فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم, فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد( )... وقد أطلق كعب السلام على ابن عمه أبي قتادة فلم يرد عليه السلام, وناشده بالله مرارًا: هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، مع أنه من أحب الناس إليه، لقد كان أبو قتادة في هذا الموقف موزع الفكر بين إجابة رجل حبيب إليه عزيز عليه، وبين تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق الهجر التربوي, ولكن ليس هناك تردد بين الأمرين، فالذي أوحى به إيمان أبي قتادة هو تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم فظهر ذلك على سلوكه( ).
وقد بلغ الالتزام بالأمر النبوي في الهجر التربوي ذروته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا باعتزال زوجاتهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا, فالتزم الجميع بذلك، واستأذنت زوجة هلال بن أمية -وكان شيخا طاعنا في السن لا يجد من يخدمه- فطلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن لها أن تخدمه فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك شريطة ألا يقربها؛ فالتزمت رضي الله عنها( ).
5- الولاء التام لله ورسوله:
كان العدو الصليبي يراقب ويرصد ويستغل الفرصة السانحة لكي يمزق الجبهة الداخلية ويشعل نار الفتنة بين المسلمين ليوهن البنيان ويقوض الأركان, ولذلك استغل ملك غسان فرصة هجران المسلمين لكعب بن مالك t وعقوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم له, بأن يرسل سفيره لكعب برسالة خاصة منه إليه يغريه فيها, تأمل قوله: قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك( ). فكان تعليق كعب على هذه الرسالة: وهذا من البلاء أيضا، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع فيَّ رجال من أهل الشرك، ثم أحرق الرسالة( ) وهذا الموقف يدل على شدة ولاء كعب لله ورسوله وقوة إيمانه وعظمة نفسه, فقد أدرك أنها محنة جديدة أقسى من الأولى، فلا يرضيه أن يجيب ملك غسان بالسلب، أو يرمي بالكتاب ويمزقه، ولكنه رمى به في التنور ليصير رمادا، ويصير كل ما به دخانا يتبدد في الهواء، وخرج الرجل من محنته وهو أقوى ما يكون إيمانا، وأصفى ما يكون روحا، وأكرم ما يكون أخلاقا, فيالعظمة هذه النفوس المؤمنة الكبيرة( )! لقد مر كعب من فوق هذا الاختبار والابتلاء عزيزًا قويًا بإسلامه، لم يتأثر به ولا انزلق فيه( ).
6- توبة الله على العبد قيمة دينية يتطلع إليها الصادقون:
عندما نزلت الآيات الكريمة التي بينت توبة الله على هؤلاء الثلاثة كان ذلك اليوم من الأيام العظيمة عند المسلمين, ظهرت فيه الفرحة على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استنار كأنه قطعة قمر، وظهرت الفرحة على وجوه الصحابة -رضي الله عنهم- حتى صاروا يتلقون كعبًا وصاحبيه أفواجًا يهنئونهم بما تفضل الله به عليهم من التوبة, وجاء كعب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه يبرق من السرور فقال له: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، وهذا يعني مقام التوبة وأنها أعظم من الدخول في الإسلام.
إن التوبة تعني عودة العبد إلى الدخول تحت رضوان الله تعالى الذي هو أعلى هدف ينشده المسلم، وبالتالي فإنه يحظى بحفظه -جل وعلا- في الدنيا وتكريمه في الآخرة، لقد كانت توبة كعب عظيمة عبر عنها بنزع ثوبيه -اللذين لا يملك يومئذ غيرهما- وإهدائهما لمن بشره( ) وعدم نسيان كعب لطلحة بن عبيد الله مصافحته وتهنئته له( ) وكذلك كانت فرحة صاحبيه عظيمة غير أن كعبا لم يذكر في هذا الخبر إلا ما جرى له( ) وقد جاء في رواية الواقدي: وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد قال: وخرجت إلى بني واقف فبشرته فسجد، قال سعيد: فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه( ).
7- تشرع أنواع من العبادات شكرًا لله عند النعمة:
كانت فرحة كعب بن مالك بتوبة الله -سبحانه وتعالى- عليه لا تحدها حدود, ولا يتصورها مثل، وقد تفنن هو t في التعبير عنها بجملة من العبادات منها:
أ- سجود الشكر: حينما سمع كعب البشارة بتوبة الله عليه خر ساجدًا من فوره شكرًا لله - تبارك وتعالى- فقد كان من عادة الصحابة -رضي الله عنهم- أن يسجدوا شكرًا لله -تعالى- كلما تجددت لهم نعمة أو انصرفت عنهم نقمة, وقد تعلموا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم( )
ب- مكافأة الذي يحمل البشرى: فقد نزع كعب ثوبيه اللذين كان يلبسهما، فكساهما الذي سمع صوته بالبشرى، وما كان يملك وقتئذ غيرهما، ثم استعار ثوبين فلبسهما، ولا شك أن هذا ضرب من الهبة المشروعة, فإن كان المبشر غنيا كان له هدية، وإن كان فقيرا كان له صدقة، وكلاهما إخراج المال شكرا لله –تعالى- على إنزاله الفرج( ).
ج- التصدق بالمال: فقد جعل كعب من توبته أن ينخلع من ماله صدقة لله تعالى, لكنه -عليه الصلاة والسلام- لم يتقبل منه التصدق بجميع ماله، وقال له: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك», وكأنه يستشيره بذلك، فكانت المشورة بإمساك بعض ماله( ) وقد ثار الخلاف الفقهي فيمن نذر التصدق بجميع ماله، والصدقة مستحبة, والنذر واجب الوفاء، ولم يذهب كعب إلى النذر, وإنما استشار في الصدقة بكل المال، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بإمساك بعض ماله.
* * *
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق