771
السيرة النبوية:عرض وقائع وتحليل أحداث ج 2
الفصل السابع عشر: غزوة تبوك (9هـ), وهي غزوة العسرة
المبحث السادس :أهم الأحداث ما بين غزوة تبوك وحجة الوداع
خامسًا: عـــــام الوفـــــود (9هـ):
لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك, وأسلمت ثقيف وبايعت, وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمد أربعة أشهر لقبائل العرب المشركين لكي يقرروا مصيرهم بأنفسهم قبل أن تتخذ الدولة الإسلامية منهم موقفا معينا، ضربت إليه وفود العرب آباط الإبل من كل وجه معلنة إيمانها وولاءها( ), وقد اختلف العلماء في تاريخ مقدم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عددها, حيث أشارت المصادر الحديثة والتاريخية إلى قدوم بعض الوفود إلى المدينة في تاريخ مبكر عن السنة التاسعة؛ ولعل مما أدى إلى الاختلاف في تحديد عدد الوفود بين ما يزيد على ستين وفدا عند البعض، وليرتفع فيبلغ أكثر من مائة وفد عند آخرين، ولعل البعض قد اقتصر على ذكر المشهور منهم( ) فقد أورد محمد بن إسحاق أنه: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت, ضربت إليه وفود العرب من كل وجه( ).
وقد استقصى ابن سعد في جمع المعلومات عن الوفود، كما فصل كثيرًا وقدم ترجمات وافية عن رجال الوفود، ومن كانت له صحبة منهم، وما ورد عن طريقهم من آثار, ولا تخلو أسانيد ابن سعد -أحيانا- من المطاعن، كما أن فيها أسانيد من الثقات أيضا( ) ولا شك في أن الأخبار التي أوردها المؤرخون ليست ثابتة بالنقل الصحيح المعتمد وفق أساليب المحدثين, رغم أن عددا كبيرا من المرويات عن تلك الوفود ثابتة وصحيحة( ) فقد أورد البخاري معلومات عن وفد قبيلة تميم وقدومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ووفود أخرى مثل: عبد القيس, وبني حنيفة، ووفد نجران، ووفد الأشعريين، وأهل اليمن، ووفد دوس( ) وتعززت أخبار هذه الوفود بمعلومات إضافية وردت في مصادر تاريخية إلى جانب ما ورد عنها في كتب السير والمغازي( ) وقد أورد مسلم أخبارا عن أغلب الوفود المذكورة آنفا( ) كما أوردت بقية الكتب الستة معلومات أوسع شملت عددًا كبيرًا من الوفود( ).
إن قصص الوفود وأخبارها وكيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم معها من الأهمية بالمكان الكبير( ) وتبقى مسألة الحاجة الماسة إلى نقد تاريخي لمتون الأخبار المفصلة التي وصلتنا عن الوفود( ). لقد تركت لنا تلك الأخبار والقصص منهجًا نبويًا كريمًا في تعامله صلى الله عليه وسلم مع الوفود يمكننا الاستفادة من هديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع النفسية البشرية وتربيته ودقته وتنظيمه, ففيها ثروة هائلة من الفقه الذي يدخل في دوائر التعليم والتربية والتثقيف وبعد النظر وجمع القلوب على الغاية, وربط أفراد بأعينهم بالمركز بحيث تبقى في كل الظروف والأحوال مرتكزات قوية إلى الإسلام, إلى غير ذلك من مظاهر العظمة للعاملين في كل الحقول نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وإداريًا وسياسيًا وعسكريًا تعطي لكل عامل في جانب من هذه الجوانب دروسا تكفيه وتغنيه( ) هذا وقد تميز العام التاسع بتوافد العرب إلى المدينة, وقد استعدت الدولة الإسلامية لاستقبالهم وتهيئة المناخ التربوي لهم، وقد تمثل هذا الاستقبال، بتهيئة مكان إقامة لهم وكانت هناك دار للضيافة( ) ينزل فيها الوافدون، وهناك مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان ساحة للاستقبال، ثم كان هناك تطوع أو تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة باستضافة بعض القادمين( ) واهتم صلى الله عليه وسلم بتلك الوفود وحرص على تعليمها وتربيتها، وقد كانت تلك الوفود حريصة على فهم الإسلام وتعلم شرائعه وأحكامه، وآدابه، ونظمه في الحياة، وتطبيق ما علموه تطبيقا عمليا، جعلهم نماذج حياة لفضائله، وقد كان لكثير منهم تساؤلات عن أشياء كانت شائعة بينهم ابتغاء معرفة حلالها وحرامها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على تفقيههم في الدين، وبيان ما سألوه عنه, وكان صلى الله عليه وسلم يدني منهم من يعلم منه زيادة حرص على القرآن العظيم وحفظ آياته تفقهًا فيه ويقول لأصحابه: فقهوا إخوانكم( ) وكان صلى الله عليه وسلم يسأل عمن يعرف من شرفائهم، فإذا رغبوا في الرحيل إلى بلادهم أوصاهم بلزوم الحق، وحثهم على الاعتصام بالصبر، ثم يجزيهم بالجوائز الحسان، ويسوي بينهم, فإذا رجعوا إلى أقوامهم رجعوا هداة دعاة مشرقة قلوبهم بنور الإيمان، يعلمونهم مما علموا، ويحدثونهم بما سمعوا، ويذكرون لهم مكارم النبي وبره وبشره واستنارة وجهه سرورا بمقدمهم عليه، ويذكرون لهم ما شاهدوه من حال أصحابه في تآخيهم وتحاببهم, ومواساة بعضهم بعضًا ليثيروا في أنفسهم الشوق إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقاء أصحابه, ويحببوا إليهم التأسي بهم في سلوكهم ومكارم أخلاقهم( ) واختارت بعض الوفود البقاء على نصرانيتها كوفود نصارى نجران ووافقت على دفع الجزية، ونحاول أن نتحدث عن بعض الوفود لما في ذلك من الفقه والدروس والعبر, كوفد عبد القيس، وبني سعد بن بكر ووفد نصارى نجران:
أ- وفد عبد القيس:
وقد تحدث ابن عباس رضي الله عنهما عن قدومهم فقال:
إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من الوفد؟» أو «من القوم؟» قالوا: ربيعة قال: «مرحبا بالقوم( ) -أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى» ( ). قال: فقالوا: يا رسول الله, إنا نأتيك من شقة بعيدة( ) وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل( ) نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: «هل تدرون ما الإيمان بالله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خُمسا من المغنم» ونهاهم عن الدباء( ) والحنتم( ) والمزفت( ) وربما قال النقير( ) أو المقير، وقال: «احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم» ( ) وفي رواية: أن الأشج بن عبد القيس تخلف في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله» فقال: جبل جبلت عليه أم تخلقا مني؟ قال: «بل جبل» قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله( ).
وقد انشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم وأخر صلاة السنة البعدية بعد الظهر وصلاها بعد العصر( ).
ب- وفد ضمامة بن ثعلبة عن قومه بني سعد بن بكر:
قال أنس بن مالك t: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد, ثم علقه, ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك. فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسألك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد( ) عليَّ في نفسك, فقال: «سل عما بدا لك» فقال: أسألك بربك وربِّ من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: «اللهم نعم» قال: أنشدك بالله, آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها في فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم». فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي, وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر( ).
وفي رواية ابن عباس... حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص.
قال: ثم انصرف راجعا إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولَّى: «إن يصدق ذو العقيصتين( ) يدخل الجنة» قال: فأتى إلى بعيره، فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه, فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: صه يا ضمام اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم! إنهما –والله- لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا, قال: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة( ).
وتدل قصة إسلامه على مدى انتشار تعاليم الإسلام في وسط القبائل العربية، حتى جاء ضمام لا ليسأل عنها، ولكن جاء ليستوثق منها، معددا لها الواحدة تلو الأخرى، مما يدل على استيعابه لها قبل مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم( ).
ج- وفد نصارى نجران:
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران( ) كتابا قال فيه: أما بعد, فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد, فإن أبيتم فالجزية, فإن أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام( ).
فلما أتى الأسقف الكتاب، جمع الناس وقرأه عليهم، وسألهم عن الرأي فيه, فقرروا أن يرسلوا إليه وفدًا يتكون من أربعة عشر من أشرافهم، وقيل ستين راكبًا، منهم ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن رأيه، والسيد وهو صاحب رحلتهم، وأبو الحارث أسقفهم وحبرهم وصاحب مدارسهم. فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، وفي أيديهم خواتيم الذهب، فقاموا يصلون في المسجد نحو المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوهم».
ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم، ولم يكلمهم، فقال لهم عثمان: من أجل زيكم هذا، فانصرفوا يومهم هذا، ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه، فرد عليهم ودعاهم إلى الإسلام، فأبوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولدًا»( ) وكثر الجدال والحجاج بينه وبينهم، والنبي يتلو عليهم القرآن ويقرع باطلهم بالحجة, وكان مما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك تشتم صاحبنا وتقول إنه عبد الله، فقال: «أجل إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول»، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله؟ فأنزل الله في الرد عليهم قوله سبحانه: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ) [آل عمران: 59-60].
فكانت حجة دامغة شبه فيها الغريب بما هو أغرب منه( ), فلما لم تُجْدِ معهم المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة دعاهم إلى المباهلة( ) امتثالا لقوله تعالى: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) [آل عمران: 61].
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه علي، والحسن والحسين، وفاطمة وقال: «وإذا أنا دعوت فأمنوا»( ) فائتمروا فيما بينهم فخافوا الهلاك لعلمهم أنه نبي حقًّا، وأنه ما باهل قوم نبيًا إلا هلكوا، فأبوا أن يلاعنوه وقالوا: احكم علينا بما أحببت، فصالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر( ) ولما عزموا على الرجوع إلى بلادهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعث معنا رجلاً أمينًا ليقبض منهم مال الصلح, فقال لهم: «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين» فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح»، فلما قام قال: «هذا أمين هذه الأمة»( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق