748
السيرة النبوية:عرض وقائع وتحليل أحداث ج 2
الفصل السابع عشر: غزوة تبوك (9هـ), وهي غزوة العسرة
المبحث الثاني : أحداث في الطريق والوصول إلى تبوك
ثانيًا: قصة أبي خيثمة:
قال ابن إسحاق:... ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه( ) قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا, فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح( ) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ, وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زادًا، ففعلتا ثم قدم ناضحه( ) فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة», فقالوا: يا رسول الله, هو –والله- أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك( ) يا أبا خيثمة», ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له بخير( ).
قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة في ذلك شعرًا, واسمه مالك بن قيس:
لما رأيت الناس في الدين نافقوا
أتيت التي كانت أعفَّ وأكرما
وبايعت باليمنى يدي لمحمد
فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا( ) في العريش وصرمة( )
صفايا( ) كرامًا يسرها قد تحمما( )
وكنت إذا شك المنافق أسمحت( )
إلى الدين نفسي شطره حيث يمما( )
وفي هذه القصة دروس وعبر منها:
1- المسلم صاحب ضمير حي:
فقد رأى أبو خيثمة t ما أعدت له زوجتاه من الماء البارد والطعام مع الظل المبرد والإقامة, فتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو فيه من التعرض للشمس والريح والحر, فأبصر وتذكر وتيقظ ضميره وحاسب نفسه، ثم عزم على الخروج، وخرج وحده يقطع الفيافي والقفار حتى التقى بعمير بن وهب الجمحي, ولعله كان قادما من مكة، فهذه الصورة تبين لنا مثلا من سلوك المتقين الذين تمر عليهم لحظات ضعف يعودون بعدها أقوى إيمانا مما كانوا عليه إذا تذكروا وراجعوا أنفسهم, وفي بيان ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) [الأعراف: 201].
وقد تذكر سريعا وخرج لعله يدرك ما فاته، وظل يشعر بالذنب حتى وصل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك وحصل على رضاه وسروره( ).
2- معرفة الرسول بأصحابه وبمعادنهم:
إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال له أصحابه: هذا راكب على الطريق مقبل: «كن أبا خيثمة», فلما اقترب وعرفوه قالوا: يا رسول الله, هو –والله- أبو خيثمة، يدل على معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأنه أعرفهم بمعادن رجاله، يعرف المستجيب من غيره، ويعرف التائب المنيب إلى ربه إذ زلت قدمه بسرعة رجوعه، ومعرفة خصال الرجال ومعادنهم تدل على معرفة واسعة، وخبرة مستوعبة فاحصة نتيجة التعامل والاحتكاك في ميادين
الحياة المختلفة، فقد كان يخالط الجميع، يسمع منهم ويسمعهم ويسيرون معه، ويجاهدون تحت رايته( ).
3- حزم أبي خيثمة وصبره ونفاذ عزيمته:
تأمل هذا القرار الذي اتخذه أبو خيثمة t أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، في هذه الرحلة المضنية، في هذه الصحراء القليلة الماء ذات الحر اللافح، لقد اتخذ هذا القرار الحازم ونفذه بدقة، فدل على قوة عزيمته وعنفوان إرادته وعلى جلده وصبره( ).
4- عتاب القائد للجندي له أثره:
وصل أبو خيثمة معترفا بذنبه، يطرح السلاح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاتبه, صلى الله عليه وسلم معاتبة تحمل في طياتها اللوم والتأنيب والتهديد, إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك يا أبا خيثمة» فهي كلمة فيها معنى التهديد، ومعناها: دنوت من الهلكة.
إنه مما لا شك فيه أن هذا الكلام كان له وقعه في نفس الجندي، إذ أوقفه على حقيقة ما ارتكب من الذنب.
وهذا منهج نبوي كريم في تعليم القادة عدم السكوت على أخطاء الجنود؛ لأن ذلك يضرهم ويلحق الضرر بغيرهم، بل عليهم أن يسعوا إلى تصويب الخطأ ومحاسبة مرتكبه وتقويمه, وبذلك يكونون معلمين ومرشدين ومربين( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق