694
السيرة النبوية:عرض وقائع وتحليل أحداث ج 2
الفصل الرابع عشر: أهم الأحداث ما بين الحديبية وفتح مكة
سادسًا: دروس وعبر وفوائد:
ففي هذه الغزوة دروس وعبر كثيرة منها:
1- أهمية هذه المعركة: تعتبر هذه المعركة من أهم المعارك التي وقعت بين المسلمين وبين النصارى الصليبيين من عرب وعجم؛ لأنها أول صدام مسلح ذي بال بين الفريقين، وأثرت تلك المعركة على مستقبل الدولة الرومانية، فقد كانت مقدمة لفتح بلاد الشام وتحريرها من الرومان. ونستطيع أن نقول إن تلك الغزوة هي خطوة عملية قام بها النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء على دولة الروم المتجبرة في بلاد الشام، فقد هز هيبتها من قلوب العرب، وأعطت فكرة عن الروح المعنوية العالية عند المسلمين، كما أظهرت ضعف الروح المعنوية في القتال عند الجندي الصليبي النصراني( ), وأعطت فرصة للمسلمين للتعرف على حقيقة قوات الروم، ومعرفة أساليبهم في القتال.
2- حب الشهادة باعث للتضحية: إن الصبر والثبات والتضحية التي تجلت في كل واحد من الأمراء الثلاثة وسائر الجند كان مبعثها الحرص على ثواب المجاهدين, والرغبة في نيل الشهادة لكي يكرمهم الله برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, ويدخلوا جنات الله الواسعة التي فيها ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
3- تميز هذه المعركة عن سائر المعارك: فهي الوحيدة التي جاء خبرها من السماء، إذ نعى النبي صلى الله عليه وسلم استشهاد الأبطال الثلاثة قبل أن يصل الخبر من أرض المعركة، بل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أحداثها، وتمتاز أيضا عن غيرها بأنها الوقعة الوحيدة التي اختار النبي صلى الله عليه وسلم لها ثلاثة أمراء على الترتيب: زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب، عبد الله بن رواحة( ).
4- إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لآل جعفر: لما أصيب جعفر دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسماء بنت عميس فقال: «ائتيني ببني جعفر» فأتت بهم فشمهم وقبلهم وذرفت عيناه، فقالت أسماء: أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: «نعم أصيبوا هذا اليوم»، فجعلت تصيح وتولول, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعامًا، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» ( ).
وتلحظ في هذا الخبر عدة أمور منها:
أ- جواز بكاء المرأة على زوجها المتوفى: أُخذ هذا من فعل أسماء بنت عميس رضي الله عنها حينما نعى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها ومن معه، فبكت وصاحت، فلم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهها عن ذلك، ولو كان ممنوعًا لنهاها عن ذلك، والبكاء الذي نهى عنه الإسلام هو ما كان سائدًا عند أهل الجاهلية من النواح واللطم وشق الجيوب، والتبرم بقضاء الله وقدره، وما إلى ذلك مما يكون سببًا في معصية الخالق سبحانه.
ب- استحباب صنع الطعام لأهل الميت: وقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يصنعوا طعامًا لآل جعفر، وهذا فيه مواساة لأهل المتوفى وتخفيف مصابهم، وفي الوقت نفسه تكافل بينهم وهذه السنة خالفتها بعض الشعوب الإسلامية، وأصبح أهل الميت يصنعون الطعام للقادمين، وهذا أمر قبيح ينبغي أن يبتعد عنه المسلمون( ).
هذا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البكاء بعد ثلاث, فقد دخل على أسماء وقال لها: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي» فجيء بهم كأنهم أفرخ، فدعا بالحلاق فحلق لهم رؤوسهم ثم قال: «أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي»، ثم أخذ بيمين عبد الله وقال: «اللهم اخلف جعفرًا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه» قالها ثلاثا( ). ولما ذكرت له أمهم يتمهم وضعفهم قال لها: «العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة»( ). وهذا منهج نبوي كريم خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاية وتكريم أبناء الشهداء لكي تسير الأمة على نهجه الميمون( ).
ج- زواج أبي بكر الصديق من أسماء بنت عميس: وبعد أن انقضت عدة أسماء بنت عميس خطبها أبو بكر الصديق ? فتزوجها، وولدت له محمد بن أبي بكر، وبعدما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب، وولدت له أولادًا ? وعنها وعنهم أجمعين( ). وقد ذكر ابن كثير أن أسماء بنت عميس رثت زوجها جعفر بن أبي طالب بقصيدة تقول فيها:
عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فآليت لا تنفك نفسي حزينة
أكر وأحمر في الهياج وأصبرا( )
فلله عينا من رأى مثله فتى
5- من فقه القيادة: إنه درس عظيم يقدمه لنا الصحابي الجليل ثابت بن أقرم العجلاني، عندما أخذ اللواء بعد استشهاد عبد الله بن رواحة آخر الأمراء، وذلك أداء منه للواجب؛ لأن وقوع الراية معناه هزيمة الجيش، ثم نادى المسلمين أن يختاروا لهم قائدًا، وفي زحمة الأحداث قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل.. فاصطلح الناس على خالد. وفي رواية أن ثابتًا مشى باللواء إلى خالد، فقال خالد: لا آخذه منك، أنت أحق به فقال: والله ما أخذته إلا لك.
إن مضمون كلتا الروايتين واحدٌ، أن ثابتًا جمع المسلمين أولاً وأعطى القوس باريها, فأعطى الراية أبا سليمان خالد بن الوليد( ), ولم يقبل قول المسلمين: أنت أميرنا، ذلك أنه يرى فيهم من هو أكفأ منه لهذا العمل، وحينما يتولى العمل من ليس له بأهل، فإن الفساد متوقع، والعمل حينما يكون لله تعالى، لا يكون فيه أثر لحب الشهرة، أو حظ النفس.
إن ثابتًا لم يكن عاجزًا عن قيادة المسلمين، وهو ممن حضر بدرًا، ولكنه رأى من الظلم أن يتولى عملاً وفي المسلمين من هو أجدر به منه، حتى ولو لم يمضِ على إسلامه أكثر من ثلاثة أشهر؛ لأن الغاية هي السعي لتنفيذ أوامر الله على الوجه الأحسن والطريقة الأمثل( ).
إن كثيرًا ممن يتزعمون قيادة الدعوة الإسلامية اليوم يضعون العراقيل أمام الطاقات الجديدة، والقدرات الفذة خوفًا على مكانتهم القيادية، وامتيازاتهم الشخصية، وأطماعهم الدنيوية، فعلى أولئك القادة أن يتعظوا من هذا الدرس البليغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
6- درس نبوي في احترام القيادة: قال عوف بن مالك الأشجعي ?: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مدديّ من اليمن( )... ومضينا فلقينا جموع الروم، فيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وله سلاح مذهب، فجعل الرومي يضرب بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه بسيفه، وفر الرومي، فعلاه بسيفه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه بعض السلب, قال عوف: فأتيت خالدًا، وقلت له: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته قلت: لتردنها إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأبى أن يرد عليه. قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خالد ما حملك على ما صنعت؟» قال: استكثرته فقال: «رد عليه الذي أخذت منه». قال عوف: فقلت: دونكها يا خالد، ألم أوف لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذلك؟» فأخبرته قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره»( ).
هذا موقف عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم في حماية القادة والأمراء من أن يتعرضوا للإهانة بسبب الأخطاء التي قد تقع منهم، فهم بشر معرضون للخطأ، فينبغي السعي في إصلاح خطئهم من غير تنقص ولا إهانة، فخالد حين يمنع ذلك المجاهد سلبه لم يقصد الإساءة إليه، وإنما اجتهد فغلَّب جانب المصلحة العامة، حيث استكثر ذلك السلب على فرد واحد، ورأى أنه إذا دخل في الغنيمة العامة نفع عددًا أكبر من المجاهدين، وعوف بن مالك أدى مهمته في الإنكار على خالد، ثم رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما لم يقبل خالد قوله، وكان المفترض أن تكون مهمته قد انتهت بذلك؛ لأنه والحال هذه قد دخل في أمر من أوامر الإصلاح، وقد تم الإصلاح على يديه، ولكنه تجاوز هذه المهمة حيث حول القضية من قضية إصلاحية إلى قضية شخصية، فأظهر شيئًا من التشفي من خالد، ولم يقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل أنكر عليه إنكارًا شديدًا وبيَّن حق الولاة على جنودهم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر خالدًا بعدم رد السلب على صاحبه لا يعني أن حق ذلك المجاهد قد ضاع؛ لأنه لا يمكن أن يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانًا بجريرة غيره، فلا بد أن ذلك المجاهد قد حصل منه الرضا، إما بتعويض عن ذلك السلب أو بتنازل منه أو غير ذلك فيما لا يذكر تفصيله في الخبر( ).
إن الأمة التي لا تقدر رجالها ولا تحترمهم لا يمكن أن يقوم فيها نظام، إن التربية النبوية استطاعت بناء هذه الأمة بناء سليمًا، وما أحرى المسلمين اليوم أن يكون كل إنسان في مكانه، وأن يحترم ويقدر بمقدار ما يقدم لهذا الدين، ويبقى الجميع بعد ذلك في الإطار العام الذي وصف الله به المؤمنين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [المائدة: 54].
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «هل أنتم تاركون لي أمرائي» وسام آخر يضاف إلى خالد ? حيث عد من أمراء الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذا من المنهاج النبوي الكريم في تقدير الرجال( ).
7- مقاييس الإيمان وأثرها في المعارك:
توقف الجيش الإسلامي في معان يناقش كثرة جيش العدو، وكانت المقاييس المادية لا تشجعهم على خوض المعركة، ومع ذلك تابعوا طريقهم ودخلوا بمقاييس إيمانية، فهم خرجوا يطلبون الشهادة فلماذا إذن يفرون مما خرجوا لطلبه.
قال زيد بن أرقم: كنت يتيمًا لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته ينشد أبياتًا منها:
بأرض الشام مشتهى الثواء
وجاء المسلمون وغادروني
فلما سمعتها منه بكيت, قال: فخفقني بالدرة، وقال: وما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل( ).
إن التأمل بعمق في غزوة مؤتة يساعدنا في معالجة الهزيمة النفسية والروحية التي تمر بها الأمة, وإقامة الحجة على القائلين بأن سبب هزيمتنا التفوق التكنولوجي لدى الأعداء. لقد سجل ابن كثير رأيه في هذه المعركة وقال: (... هذا عظيم جدا أن يقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلا، وقد قتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: لقد اندقَّت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقى في يدي إلا صفيحة يمانية, فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟ دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان وفي كل أوان...)( ).
8- من شعر كعب بن مالك في بكاء قتلى مؤتة: حيث قال:
طورًا أحن( ) وتارة أتململ( )
في ليلة وردت عليَّ همومها
ببنات نعشٍ والسماك موكَّل( )
واعتادني حزن فبت كأنني
مما تأوبني شهاب مدخل( )
وكأنما بين الجوانح والحشى
يومًا بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
وجدا على النفر الذين تتابعوا
وسقى عظامهم الغمام المسبل( )
صلى الإله عليهم من فتية
حذر الردى ومخافة أن ينكلوا( )
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم
فُنُق( ) عليهن الحديد المرفل( )
فمضوا أمام المسلمين كأنهم
قدام أولهم فنعم الأول
إذ يهتدون بجعفر ولوائه
حيث التقى وعث الصفوف مجدل
حتى تفرجت الصفوف وجعفر
والشمس قد كسفت وكادت تأفل( )
فتغير القمر المنير لفقده
هذه بعض الأبيات التي بكى بها كعب بن مالك شهداء مؤتة, ولم يتغيب حسان بن ثابت ? عن نظم القصائد في بكاء قتلى مؤتة، وبكاء جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة, فقد كانت المؤسسة الإعلامية تقوم بدورها بتفوق وجدارة وتتعبد المولى عز وجل بما أخصها به من ملكات ومواهب شعرية فذة.
* * *
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق