1327
البداية والنهاية ( ابن كثير ) الجزء الثامن
وهذه ترجمة يزيد بن معاوية
قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب يأخذ مأخذ الأحداث، فأحس معاوية بذلك فأحب أن يعظه في رفق، فقال: يا بني ما أقدرك على أن تصل إلى حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، ويشمت بك عدوك، ويسيء بك صديقك، ثم قال: يا بني إني منشدك أبياتاً فتأدب بها واحفظها، فأنشده:
أنصب نهاراً في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجا * واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسقٍ تحسبه ناسكاً * قد باشر الليل بأمرٍ عجيب
غطى عليه الليل أستاره * فبات في أمنٍ وعيشٍ خصيب
ولذة الأحمق مكشوفةٌ * يسعى بها كل عدوٍ مريب
قلت: وهذا كما جاء في الحديث ((من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل)).
وروى المدائني: أن عبد الله بن عباس وفد إلى معاوية فأمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن بن علي، فلما دخل على ابن عباس رحَّب به وأكرمه، وجلس عنده بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المعزي لا المهني.
(ج/ص: 8/251)
ثم ذكر الحسن فقال: رحم الله أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاك، وعوضك من مصابك ما هو خيرٌ لك ثواباً وخير عقبى.
فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس، ثم أنشد متمثلاً:
مغاض عن العوراء لا ينطقوا بها * وأصل وراثات الحلوم الأوائل
وقد كان يزيد أول من غزى مدينة قسطنطينية في سنة و تسع وأربعين في قول يعقوب بن سفيان.
وقال خليفة بن خياط: سنة خمسين.
ثم حج بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم.
وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور لهم)).
وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عند أم حرام فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: ((أنت من الأولين)).
يعني: جيش معاوية حين غزا قبرص، ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن عفان، وكانت معهم أم حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني ابنه يزيد بن معاوية، ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا.
وهذا من أعظم دلائل النبوة.
وقد أورد الحافظ ابن عساكر ههنا الحديث الذي رواه محاضر، عن الأعمش، عن إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)).
وكذلك رواه عبد الله بن شفيق عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
ثم أورد من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد، عن زرارة بن أوفى قال: القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرن وكان آخره موت يزيد بن معاوية.
قال: قال أبو بكر بن عياش: حج بالناس يزيد بن معاوية في سنة إحدى وخمسين وثنتين وخمسين وثلاث خمسين.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو كريب، ثنا رشد بن عمرو بن الحارث، عن أبي بكير بن الأشج أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلاً إن وليت؟
قال: يمتع الله بك يا أمير المؤمنين.
قال: لتخبرني.
قال: كنت والله يا أبة عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب.
فقال معاوية: سبحان الله يا بنيَّ والله لقد جهدت على سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها فكيف بك وسيرة عمر؟
وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى.
(ج/ص: 8/252)
قال: قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت: يا يزيد !! اتق الله فقد وطأت لك هذا الأمر، ووليتُ من ذلك ما وليت، فإن يك خيراً فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به.
فارفق بالناس وأغمض عما بلغك من قول تؤذي به وتنتقص به، وطأ عليه يهنك عيشك، وتصلح لك رعيتك، وإياك والمناقشة وحمل الغضب، فإنك تهلك نفسك ورعيتك، وإياك وخيرة أهل الشرف واستهانتهم والتكبر عليهم، ولنْ لهم ليناً بحيث لا يروا منك ضعفاً ولا خوراً، وأوطئهم فراشك وقربهم إليك وأدنهم منك فإنهم يعلموا لك حقك، ولا تهنهم ولا تستخف بحقهم فيهينوك ويستخفوا بحقك ويقعوا فيك.
فإذا أردت أمراً فادع أهل السن والتجربة من أهل الخير من المشايخ وأهل التقوى فشاورهم ولا تخالفهم، وإياك والاستبداد برأيك فإن الرأي ليس في صدر واحد، وصدق من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزن ذلك عن نسائك وخدمك؛ وشمر إزارك، وتعاهد جندك، وأصلح نفسك تصلح لك الناس، لا تدع لهم فيك مقالاً فإن الناس سراع إلى الشر.
واحضر الصلاة، فإنك إذا فعلت ما أوصيك به عرف الناس لك حقك، وعظمت مملكتك، وعظمت في أعين الناس.
واعرف شرف أهل المدينة ومكة فإنهم أصلك وعشيرتك، واحفظ لأهل الشام شرفهم فإنهم أهل طاعتك، واكتب إلى أهل الأمصار بكتاب تعدهم فيه منك بالمعروف، فإن ذلك يبسط آمالهم، وإن وفد عليك وافد من الكور كلها فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن ورائهم، ولا تسمعن قول قاذف ولا ما حل فإني رأيتهم وزراء سوء.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق