1256
البداية والنهاية ( ابن كثير ) الجزء الثامن
والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فإنها بقاببة قوبها، وإن السيل إذا جاء يبرى، وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهتموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستيصال، أستغفر الله لي ولكم، أستغفر الله. ثم نزل.
- قال أهل اللغة: القاببة البيضة، والقوب الفرخ، قابت البيضة تقوب إذا انفلقت عن الفرخ -.
والظاهر: أن هذه الخطبة كانت عام حج في سنة أربع وأربعين، أو في سنة خمسين، لا في عام الجماعة.
وقال الليث: حدثني علوان بن صالح بن كيسان أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها.
فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل فسكن عائشة بنت عثمان، وأمرها بالكف وقال لها: يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا.
فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا؟
وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إليّ أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك.
وقد روى ابن عدي من طريق علي بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة عن أبي سعيد، ومن حديث مجالد، وهو ضعيف أيضاً، عن أبي الوداك أبي سعيد.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)).
وأسنده أيضاً من طريق الحكم بن ظهير _ وهو متروك -عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود مرفوعاً.
وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحاً لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم. (ج/ص: 8/142)
وأرسله عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، قال أيوب: وهو كذب.
ورواه الخطيب البغدادي بإسناد مجهول، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً: ((إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه، فإنه أمين مأمون)).
وقال أبو زرعة الدمشقي: عن دحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي قال: أدركت خلافة معاوية عدة من الصحابة منهم: أسامة، وسعد، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك.
ورجال أكثر وأطيب ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، ومن الدين جديده، وعرفوا من الإسلام ما لم يعرفه غيرهم، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويل القرآن.
ومن التابعين لهم بإحسان ما شاء الله، منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن محيريز، وفي أشباه لهم لم ينزعوا يداً من جماعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو زرعة: عن دحيم، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز.
قال: لما قتل عثمان لم يكن للناس غازية تغزو، حتى كان عام الجماعة فأغزا معاوية أرض الروم ست عشرة غزوة، تذهب سرية في الصيف ويُشَتُّوا بأرض الروم، ثم تقفل وتعقبها أخرى.
وكان في جملة من أغزى ابنه يزيد ومعه خلق من الصحابة، فجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل بهم راجعاً إلى الشام، وكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شد خناق الروم.
وقال ابن وهب: عن يونس، عن الزهري قال: حج معاوية بالناس في أيام خلافته مرتين، وكانت أيامه عشرين سنة إلا شهراً.
وقال أبو بكر بن عياش: حج بالناس معاوية سنة أربع وأربعين، وسنة خمسين.
وقال غيره: سنة إحدى وخمسين فالله أعلم.
وقال الليث بن سعد: حدثنا بكير، عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال: ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب - يعني: معاوية -.
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، ثنا المسور بن مخرمة: أنه وفد على معاوية.
قال: فلما دخلت عليه - حسبت أنه قال: سلمت عليه - فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟
قال: قلت: ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له.
فقال: لتكلمني بذات نفسك.
قال: فلم أدع شيئاً أعيبه عليه إلا أخبرته به.
فقال: لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من الذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك؟
قال: قلت: نعم !
إن لي ذنوباً إن لم تغفرها هلكت بسببها.
(ج/ص: 8/143)
قال: فما الذي يجعلك أحق بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوالله لما إليّ من إصلاح الرعايا وإقامة الحدود والإصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله ولا نحصيها أكثر مما تذكر من العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيئات.
والله على ذلك ما كنت لأخيَّر بين الله وغيره إلا اخترت الله على غيره مما سواه.
قال: ففكرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خصمني.
قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير.
وقد رواه شعيب، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بنحوه.
وقال ابن دريد: عن أبي حاتم عن العتبي قال: قال معاوية: يا أيها الناس !
ما أنا بخيركم وإن منكم لمن هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدركم حلباً.
وقد رواه أصحاب محمد، عن ابن سعد، عن محمد بن مصعب، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ثابت مولى معاوية: أنه سمع معاوية يقول نحو ذلك.
وقال هشام بن عمار خطيب دمشق: حدثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس بن حلبس قال: سمعت معاوية على منبر دمشق يوم جمعة يقول:
أيها الناس اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطن الله عليكم عدوكم فليسومنكم سوء العذاب.
تصدقوا ولا يقولن الرجل إني مقلٌ، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني، وإياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: سمعت وبلغني، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يزيد بن طهمان الرقاشي، ثنا محمد بن سيرين.
قال: كان معاوية إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتهم.
ورواه أبو القاسم البغوي: عن سويد بن سعيد، عن همام بن إسماعيل، عن أبي قبيل.
قال: كان معاوية يبعث رجلاً يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على المجالس يسأل هل ولد لأحد مولود؟
أو قدم أحد من الوفود؟
فإذا أخبر بذلك أثبت في الديوان - يعني: ليجري عليه الرزق -.
وقال غيره: كان معاوية متواضعاً ليس له مجالد إلا كمجالد الصبيان التي يسمونها المخاريق فيضرب بها الناس.
وقال هشام بن عمار: عن عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس.
قال: رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصفياً عليه قميص مرقوع الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق.
وقال الأعمش: عن مجاهد أنه قال: لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي.
وقال هشيم: عن العوام، عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمرو.
قال: ما رأيت أحداً أسود من معاوية.
قال: قلت: ولا عمر؟
قال: كان عمر خيراً منه، وكان معاوية أسود منه.
ورواه أبو سفيان الحيري: عن العوام بن حوشب به.
وقال: ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية.
قيل: ولا أبو بكر؟
قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيراً منه، وهو أسود.
وروى من طرق عن ابن عمر مثله.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن همام: سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية. (ج/ص: 8/144)
وقال حنبل بن إسحاق: حدثنا أبو نعيم، حدثنا ابن أبي عتيبة، عن شيخ من أهل المدينة قال: قال معاوية: أنا أول الملوك.
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا حمزة، عن ابن شوذب قال: كان معاوية يقول: أنا أول الملوك وآخر خليفة.
قلت: والسُنَّة أن يقال لمعاوية: ملك، ولا يقال له خليفة حديث سفينة: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضاً)).
وقال عبد الملك بن مروان يوماً وذكر معاوية فقال: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه.
وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحداً أعظم حلماً ولا أكثر سؤدداً ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية.
وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاماً سيئاً شديداً، فقيل له: لو سطوت عليه؟
فقال: إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.
وفي رواية: قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟
فقال: إني لأستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق