إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 29 مارس 2015

1254 البداية والنهاية ( ابن كثير ) الجزء الثامن


1254
  
البداية والنهاية ( ابن كثير ) الجزء الثامن

فلما اجتمع الناس صعد المنبر فخطب فقال‏:‏ الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركاناً، والشرائع للإيمان برهاناً، يتوقد مصباحه بالسنة في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلها أهل الشام ورضيهم لها، ورضيها لهم؛ لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابين عن دينه وحرماته‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/137‏)‏

ثم جعلهم لهذه الأمة نظاماً، وفي أعلام الخير عظاماً، يردع الله بهم الناكثين، ويجمع بهم الألفة بين المؤمنين، والله نستعين على إصلاح ما تشعث من أمور المسلمين، وتباعد بينهم بعد القرب والألفة، اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائماً، ويخيفون آمناً، ويريدون هراقة دمائنا، وإخافة سبلنا‏.‏

وقد يعلم الله أنا لا نريد لهم عقاباً، ولا نهتك لهم حجاباً، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوباً لن ننزعه طوعاً ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى، وقد علمنا أن الذي حملهم على خلافنا البغي والحسد لنا، فالله نستعين عليهم‏.‏

أيها الناس‏:‏ قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أقم رجلاً منكم على خزائه قط، وإني ولي عثمان وابن عمه‏.‏

قال الله تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏ وقد علمتم أنه قتل مظلوماً، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان‏.‏

فقال أهل الشام بأجمعهم‏:‏ بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك‏.‏

فلما رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما رأى، أفزعه ذلك، وعجب منه‏.‏

وقال معاوية لجرير‏:‏ إن ولاني عليّ الشام ومصر بايعته على أن لا يكون لأحد بعده على بيعة‏.‏

فقال‏:‏ اكتب إلى علي بما شئت، وأنا أكتب معك، فلما بلغ علياً الكتاب قال‏:‏ هذه خديعة، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك ‏{‏وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه، فما قدم إلا وقد اجتمعت العساكر إلى علي‏.‏

وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص - وكان معتزلاً بفلسطين حين قتل عثمان - وكان عثمان قد عزله عن مصر فاعتزل بفلسطين، فكتب إليه معاوية يستدعيه ليستشيره في أموره، فركب إليه فاجتمعا على حرب علي‏.‏

وقد قال عقبة بن أبي معيط في كتاب معاوية إلى علي حين سأله نيابة الشام ومصر، فكتب إلى معاوية يؤنبه ويلومه على ذلك ويعرض بأشياء فيه‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/138‏)‏

معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

فإن علياً ناظر ما تجيبه * فأهد له حرباً يشيب النواصيا

وحام عليها بالقتال وبالقنا * ولا تكُ مخشوش الذراعين وانيا

وإلاّ فسلم إن في الأمن راحةً * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وإن كتاباً يا بن حربٍ كتبته * على طمع جانٍ عليك الدواهيا

سألت علياً فيه ما لا تناله * ولو نلته لم يبق إلا لياليا

إلى أن ترى منه الذي ليس بعدها * بقاءٌ فلا تكثر عليك الأمانيا

ومثل علي تغترره بخدعةٍ * وقد كان ما خربت من قبل بانيا

ولو نشبت أظفاره فيك مرةً * فراك ابن هندٍ بعد ما كنت فاريا

وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له‏:‏ أنت تنازع علياً أم أنت مثله‏؟‏

فقال‏:‏ والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، وأنا أطلب بدمه وأمره إليَّ‏؟‏

فقولوا له‏:‏ فليسلم إليَّ قتلة عثمان، وأنا أسلم له أمره‏.‏

فأتوا علياً فكلموه في ذلك فلم يدفع إليهم أحداً، فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية‏.‏

وعن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، وأبي جعفر الباقر‏.‏

قال‏:‏ بعث علي رجلاً إلى دمشق ينذرهم أن علياً قد نهد في أهل العراق إليكم ليستعلم طاعتكم لمعاوية، فلما قدم أمر معاوية فنودي في الناس‏:‏ الصلاة جامعة، فملأوا المسجد، ثم صعد المنبر فقال في خطبته‏:‏ إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق فما الرأي‏؟‏

فضرب كل منهم على صدره، ولم يتكلم أحد منهم، ولا رفعوا إليه أبصارهم، وقام ذو الكلاع فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عليك الرأي وعلينا الفعال‏.‏

ثم نادى معاوية في الناس‏:‏ أن أخرجوا إلى معسكركم في ثلاث، فمن تخلف بعدها فقد أحل بنفسه، فاجتمعوا كلهم، فركب ذلك الرجل إلى علي فأخبره‏.‏

فأمر علي منادياً فنادى‏:‏ الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فقال‏:‏ إن معاوية قد جمع الناس لحربكم، فما الرأي‏؟‏

فقال كل فريق منهم مقالة، واختلط كلام بعضهم في بعض، فلم يدر علي مما قالوا شيئاً، فنزل عن المنبر وهو يقول‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله بها ابن آكلة الأكباد‏.‏

ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان، كما ذكرناه مبسوطاً في سنة ست وثلاثين‏.‏

وقد قال أبو بكر بن دريد‏:‏ أنبأنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة‏.‏

قال‏:‏ قال معاوية‏:‏ لقد وضعت رجلي في الركاب وهممت يوم صفين بالهزيمة، فما منعني إلا قول ابن الأطنابة حيث يقول‏:‏

أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإكراهي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي

وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال‏:‏ الخلفاء أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي‏.‏

فقيل له‏:‏ فمعاوية‏؟‏

قال‏:‏ لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي، رحم الله معاوية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/139‏)‏

وقال علي بن المديني‏:‏ سمعت سفيان بن عيينة يقول‏:‏ ما كانت في علي خصلة تقصر به عن الخلافة، ولم يكن في معاوية خصلة ينازع بها علياً‏.‏

وقيل لشريك القاضي‏:‏ كان معاوية حليماً‏؟‏

فقال‏:‏ ليس بحليم من سفه الحق وقاتل علياً‏.‏

رواه ابن عساكر‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه ذكر معاوية وأنه لبى عشية عرفة فقال فيه قولاً شديداً، ثم بلغه أن علياً لبى عشية عرفة فتركه‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثني عباد بن موسى، ثنا علي بن ثابت الجزري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عمر بن عبد العزيز‏.‏

قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أُتي بعلي ومعاوية، فأدخلا بيتاً وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول‏:‏ قضي لي ورب الكعبة‏.‏

ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول‏:‏ غفر لي ورب الكعبة‏.‏

وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي، أنه قال له رجل‏:‏ إني أبغض معاوية‏.‏

فقال له‏:‏ ولم‏؟‏

قال‏:‏ لأنه قاتل علياً‏.‏

فقال له أبو زرعة‏:‏ ويحك إن معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما‏؟‏ رضي الله عنهما‏.‏

وسئل الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 134‏]‏‏.‏



 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق