1248
البداية والنهاية ( ابن كثير ) الجزء الثامن
وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص وسكنها المسلمون قريباً من ستين سنة في أيامه ومن بعده، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائماً على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها.
فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم.
فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت.
فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة.
ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا.
فلم يزل مستقلاً بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية.
والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو.
وقد ثبت في (صحيح مسلم): من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس.
قال: قال أبو سفيان: يا رسول الله ثلاثاً أعطنيهن.
قال: ((نعم))
قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.
قال: ((نعم !))
قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك.
قال: ((نعم)): وذكر الثالثة، وهو أنه أراد أن يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته الأخرى عزة بنت أبي سفيان، واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة.
فقال: ((إن ذلك لا يحل لي))، وقد تكلمنا على ذلك في جزء مفرد وذكرنا أقوال الأئمة واعتذارهم عنه ولله الحمد.
والمقصود منه: أن معاوية كان من جملة الكتّاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يكتبون الوحي.
وروى الإمام أحمد، ومسلم، والحاكم في (مستدركه) من طريق أبي عوانة - الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء، عن ابن عباس.
قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء فقلت: ما جاء إلا إليّ، فاختبأت على باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين، ثم قال: ((اذهب فادع لي معاوية)) - وكان يكتب الوحي - قال: فذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل.
(ج/ص: 8/128)
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنه يأكل.
فقال: ((اذهب فادعه))، فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل فأخبرته.
فقال في الثالثة: ((لا أشبع الله بطنه)).
قال: فما شبع بعدها؛ وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه.
أما في دنياه: فإنه لما صار إلى الشام أميراً، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.
وأما في الآخرة: فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلاً فاجعل ذلك كفارةً وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة)).
فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك.
وقال المسيب بن واضح: عن أبي إسحاق الفزاري، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.
قال: أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقرئ معاوية السلام واستوص به خيراً؛ فإنه أمين الله على كتابه ووحيه ونعم الأمين.
ثم أورده ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الملك بن أبي سليمان، ثم أورده أيضاً من رواية علي، وجابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار جبريل في استكتابه معاوية، فقال: استكتبه فإنه أمين.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق