486
تاريخ الخلفاء الراشدين (4)سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ? شخصيته وعصره دراسة شاملة
الفصل السادس : معركته الجمل وصفين وقضية التحكيم
المبحث الأول : الأحداث التي سبقت معركة الجمل
ثامنًا: سيرة الزبير بن العوام واستشهاده:
14- حرصه على أداء دَينْه عند الموت:
عن عبد الله بن الزبير قال: جعل الزبير يوم الجمل يوصيني بديَنْه، ويقول: إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد، حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: ما وقعت في كربة من دين إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه، فيقضيه، وإنما دينه الذي كان عليه: أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة. قال: فقتل ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين، فبعتها – يعنى وقضيت دينه – فقال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا. فقلت: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم، وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف. فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف( ), وقول البخاري، رحمه الله، محمول على أن جملة المال حين الموت كانت ذلك دون الزائد في أربع سنين دون القسمة( ), وقد وقع في تركته من البركة الشيء الكثير( ), وبارك الله له في أراضيه بعد موته، فوفى دينه وزاد عليه الشيء الكثير، وفي هذه القصة درس وعبر وفوائد:
أ- قول الزبير لابنه:
يا بنى إن عجزت عن شيء منه فاستعن بمولاي؛ وهذا مثل من أمثلة اليقين الراسخ والإيمان القوى الذي ترتب عليه صدق التوكل على الله عز وجل، واللجوء إليه في قضاء الحوائج وكشف الكربات، فالمؤمن الحق يعتقد جازمًا بأن كل شيء بيد الله جل وعلا، فإذا وقع في ضائقة وكرب فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه تصور وجود الله تعالى وهيمنته على كل شيء، وأن المخلوقين الذين يُشكلون طرفًا آخر في قضيته إنما هم في قبضة البارئ جل وعلا، وأن قلوبهم بيده سبحانه يصرفها كيف يشاء، فليلجأ إليه قبل كل شيء ويسأله قضاء حاجته وتفريج كربته، ثم يقوم بعمل الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها موصلة إلى النتائج المطلوبة، مع الاعتقاد بأنها مجرد أسباب وأن الفاعل والمقدّر هو الله تعالى، وأنه قادر على أن ينزع من الأسباب قوة التأثير فلا تؤدي إلى نتائجها( ) المعروفة.
ب- هل كان الزبير رضي الله عنه من الأثرياء؟
نرى النصَّ السابق ينطق بأن الزبير، رضي الله عنه، ما كان من الأثرياء أصحاب الأموال المعروفين المشهورين بذلك، بل كان يشعر بالضائقة ويهمه أمر ما في ذمته من أموال وديون، وكان يخشى ألا تفي أرضه وعقاره بما عليه من أموال، كما ينطق هذا النص أيضًا بأن عبد الله بن الزبير ما كان يخالف أباه في توقعه، بل كان يتوقع مثله أن الديوان تزيد على الأموال والأرض، يقول له أبوه: أفترى يُبقى دينُنَا من مالنا شيئًا؟ فلا يجد عبد الله جوابًا لأبيه، ولو كان يتوقع غير ما توقع أبوه، لأجابه مطمئنًا إياه في هذا الوقت العصيب، بأن الأمر غير ما يقدَّر ويتوقَّع، بل تجده يجارى أباه صراحة في توقعه، فيسأله – عندما أشار عليه أن يستعين بمولاه-: من مولاك؟ فهو يتوقع أنه سيستعين به، ولا يزعمن زاعم بأن عبد الله لم يكن محيطًا بثروة أبيه، عارفًا بأملاكه، فإن عبد الله كان في ذلك الوقت في سن الخامسة والثلاثين، ومن يكن في مثل هذه السن من شأنه أن يكون ظهيرًا لأبيه عالمًا بكل أحواله وأمواله، وبخاصة إذا كان هو الابن الأكبر، وإن سؤال الزبير له: أفترى يُبقى ديننا من مالنا شيئًا؟ يشهد بأن عبد الله كان على علم بأحوال أبيه وأمواله، بل إن عبد الله صرح بأن أمر قضاء الدين ما كان سهلاً ولا هينًا، فيقول: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه فيقضَيه( ).ومما يشهد أيضًا بأن الزبير لم يكن معدودًا من الأغنياء وأصحاب الثروات وأن توقعه عن ديونه ونسبتها إلى أملاكه كان في موضعه ومحله، أن حكيم بن حزام رضي الله عنه – وهو ابن عم الزبير – تلقى عبد الله بن الزبير فيقول له: ما أراكم تطيقون هذا الذي عليكم من الديون فإن عجزتم عن شيء منه، فاستعينوا بي( ).
ودليل رابع: يأتي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه لعبد الله ابن الزبير – وكان له عند الزبير أربعمائة ألف – فيقول لابن الزبير: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله بن الزبير: لا. قال عبد الله بن جعفر: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم( ), فهذه شهادة اثنين من كبار الصحابة يتوقعان عدم وفاء أملاك الزبير بما عليه من ديون ويعدانه ممن يحتاج إلى عون ومساعدة، ثم هما ممن يعرف الزبير ويخالطه، ويطلع على أحواله، فأحدهما حكيم بن حزام ابن عم الزبير، والآخر ابن خاله، فأم الزبير صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول × وهو يتعامل معه أخذًا وعطاء واقتراضًا وائتمانًا، فهذه أدلة أربعة لا يرقى إليها الشك تنطق بأن الزبير، رضي الله عنه، ما كان من أصحاب الثروات( ). وقد فشا فيما فشا عن ثروة الزبير وغناه الحديث عن عبيده وخيوله؛ ففي بعض المصادر أنه كان له ألف مملوك، وأن الألف مملوك كانوا يؤدون إليه الخراج كل يوم، فما يدخل إلى بيته منها درهم واحد، يتصدق بذلك جميعه( ). لكن المستشرق الذائع الصيت «ول ديورانت» جعل الألف عشرة آلاف، فقال: كان الزبير يمتلك عشرة آلاف عبد. ثم أضاف إليها ألف جواد( ), وبالطبع حذف المستشرق (الذكي) خير تصدق الزبير بخراج مماليكه( ), وهذا الخبر لا يقف أمام رواية البخاري، إذ جاء فيها «فقتل الزبير ولم يترك دينارًا ولا درهمًا، إلا أرضين منها الغابة، وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر( ), فالرواية واضحة، وهي بأسلوب الحصر، وفي مقام الحديث عن هم الدين، والكُرب التي كانت في سبيل سداده، فلو كان هناك ألف مملوك، لكان لها ذكر، ولثمنها قيمة وقدر، ألا يساوى المملوك الواحد في أقل تقدير ألفى درهم( ), فيكون ثمن المماليك هو قيمة الدين كله إلا قليلاً؟! هذا كله على فرض أنها كانت ألفًا فقط، أما إذا أخذنا بشطحة ول ديورانت، وأنها عشرة آلاف مملوك، فمعنى ذلك نسف رواية البخاري من أساسها، فإن عشرة آلاف مملوك وألف جواد يكفى ثمنها – مهما كان بخسًا – أن يسدد ديونه، ويغرق ورثته في لجج الثراء، وما كان الزبير بحاجة إلى أن يقول لابنه: إن من أكبر همي لَدَيِنْي. ولا أن يسأله: أفترى يبُقى ديننا من مالنا شيئًا؟ ولا أن يوصيه: إذا أعجزك شيء من ديني، فاستعن عليه بمولاي( ).
إن الحديث عن سيرة الزبير وطلحة وعمرو بن العاص وأبى موسى الأشعري وأم المؤمنين عائشة ينسجم مع أهداف الكتاب، من حيث الحديث عن سيرة أمير المؤمنين على وعصره، فهذه الشخصيات تعتبر محورية في الحديث عن عصر أمير المؤمنين على، كما أن التشويه الذين لحق بها في كتب التاريخ والأدب يكون عند الحديث في الفتن الداخلية، فبيان سيرتهم، وأخلاقهم وصفاتهم واجب علينا، وحتى يخرج القارئ بمعرفة حقيقية لهذه الشخصيات، فلا يتأثر بالروايات الضعيفة، ولا القصص الموضوعة التي وضعها مورخو الشيعة الرافضة والتي شوهت ثقافة الناس عن هذه الشخصيات العظيمة، فالحديث عن سيرة الزبير أو غيره من كبار الصحابة التي أسهمت في الأحداث في عهد أمير المؤمنين على رضي الله عنه ينسجم مع أهداف المؤلف التي أراد إيصالها للقارئ من خلال دراسته لعهد الخلفاء الراشدين.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق