321
الدولة الأموية
عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
الفصل التاسع
عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
المبحث الثامن: الفقه الإداري عند عمر بن عبد العزيز وأيامه الأخيرة ووفاته رحمه الله.
ثامناً: مبدأ المرونة في إدارة عمر بن عبد العزيز:
مارس عمر بن عبد العزيز المرونة في التفاهم والحوار والفكر وتنفيذ الأوامر والتقيد بها ومن تلك الشواهد، ما روى ميمون بن مهران: أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال: يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل ؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني إنما أروض الناس رياضة الصعب، وإني لا أريد أن أحيي الأمور من العدل، فأوخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه . وقال عمر: ماطاوعني الناس على ما أردت من الحق، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً ، فقد أبدى بهذا الإعلان منذ توليه الخلافة، أن تحقيق الأهداف يتطلب شيئاً من المرونة والتغاضي، فليس الأمر كما يرى ولده بأن لا مانع لديه من أن تغلي بهم القدور في سبيل تحقيق العدل، بصرف النظر عن أي اعتبار أخر . وهذا موقف آخر مع إبنه عبد الملك وإليك ما دار بينهم من حوار:
الإبن: مايؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقضى حق الله فيها ؟
الأب: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا، وإني لا حتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي، إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لا نزله، ولكنه أنزل الآية والآيتين حتى أسكن الإيمان في قلوبهم. يا بني...مما أنا فيه أمر هو أهم إلي من أهل بيتك (الأمويين) هم أهل القدرة والعدد وقبلهم ماقبلهم، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت إنتشاره علي ولكني أنصف من الرجل والإثنين، فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجح له في الآثار السابقة، يقدم لنا عمر فقهه الحاذق في إدارة الحركات الإصلاحية التجديدية وتسيير البرامج التي تستهدف إسقاط الظلم والإستغلال ونشر العدل والمساواة . ففي قوله: إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا. فبين رحمه الله: إن طاقة الإنسان محدودة، وأن القابلية على تحمل الجد الصارم لها حدودها هي الأخرى، والإنسان في تقبله لا لتزاماته في حاجة ضرورية إلى وقت كاف لتمثل هذه الإلتزامات من الداخل وتحويلها إلى مبادئ وقيم ممزوجة بدم الإنسان وأعصابه، ومتشكلة في بنيته وخلاياه، وبدون هذا سوف لن تجتاز هذه الإلتزامات حدود الإنسان الباطنبة، وستظل هناك مكدسة على أعتاب الحس الخارجي وطالما ظل هذا التكديس يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم، فسوف يأتي يوم لا محالة يسقط فيه الإنسان تحت وطأة هذا الثقل المتزايد غير المتمثل ... ومما يلفت النظر عبارته:.. ولكني أنصف الرجل والإثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجح له. إن عمر هنا يؤكد على أهمية الإنجاز وعلى دوره في تحقيق ـ الإصلاح والتجديد ـ فكثيرون هم أولئك الذين طرحوا أقوالاً أعلنوا فيها عن عزمهم على أحداث ثورة حقيقية إنقلاب يجتث الجذور العفنة ويبدأ الزرع من جديد، ولكن هؤلاء ما لبثوا أن سقطوا وسقطت مبادؤهم لا نهم: طرحوا أقوالاً. ..أما عمر هذا المصلح الكبير والفقيه الحاذق، فإنه يريد أن يطرح أفعالاً، ولا يطرحها بالعنف والإكراه ودونما تخطيط، وإنما لينصف الرجل والإثنين فيبلغ ذلك من وراءهما حتى يسري الإصلاح في نفوس الأمة أنى كانت، سريان الضياء في الظلام. ثم إن عمر هذا الذكي المرن لم يشأ أن يخرج شيئاً إلا ومعه طرف من الدنيا يستلين به القلوب ، ولا يمكن لا حد أن يقول أن هذا يمثل تنازلاً من عمر بن عبد العزيز عن أهداف إصلاحاته الشاملة صوب إصلاح جزئي يقوم على الترقيع. .. لأن ما عرفنا عمر منذ حمل مسئولية أمته، يسعى إلى التنازل، ولو شبراً واحداً، عن الأهداف التي طرحها القرآن الكريم والسنة، ولكنه هنا يقدم فقه الأسلوب الحيوي الذي تتأتى به تلك الأهداف كاملة. .. إن الضغط المستمر يولد الإنفجار، ومهما كان سخف هذا الإنفجار وعبثه فإنه لا بد وأن يحرق ويدمر، وإذا كان بإمكان القادة والمسئولين تجاوز هذا الحريق والدمار عن طريق الإلتزام أسلوب حيوي ينسجم وبنية الإنسان النفسية، فلماذا لا يسلكوه ؟ فعندما قال له أبنه عبد الملك يا أمير المؤمنين: أنفذ لأمر الله وإني جاشت بي وبك القدور فماذا كان جواب الخليفة المرن: يا بني: إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف لا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف . إن خليفة بهذا المرونة وبهذا الذكاء لا يمكن أن يجزع عن أهدافه يوماً ومما مضى يتضح أدلة مرونة عمر في إدارته فيما يتعلق بتنفيذ السياسة العامة، سياسة إقامة العدل ونشر الإسلام، وبناء دولة العقيدة ، وإليك هذه الشواهد في تنفيذ مبدأ المرونة:
1 ـ فلا يحملنك إستعجالنا إيا ك أن تؤخر الصلاة في ميقاتها:
خرج عمر على حرسه يوماً، فقال: أيكم يعرف هذاالرجل الذي بعثناه إلى مصر ؟ قالوا: كلنا نعرفه ـ وكان قد كلف رجلاً بمهمة إلى مصر قبل وقت ليس ببعيد ـ قال: فليذهب إليه أحدثكم سناً فليدعه ـ قال: وذلك في يوم جمعة، فذهب إليه الرجل فظن الرسول أن عمر بن عبد العزيز إستبطأه فقال له: لا تعجلني حتى أشد على ثيابي، فشد عليه ثيابه، فأتى عمر، فقال: لا روع عليك، إن اليوم يوم الجمعة، فلا تبرح حتى تصلي الجمعة، وقد بعثناك لا مر عجلة من أمر المسلمين فلا يحملنك إستعجالنا إياك أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها ، فأبدى عمر في هذا الموقف مرونة في التنفيذ، رغم أنه رسل مندوبه لا مر يهم المسلمين إنجازه على عجل .
2 ـ هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج:
إستدعى عمر بن عبد العزيز عامله على خراسان، فما كان من العامل إلا أن أسرع بالمغادرة إلى الخليفة تنفيذاً لا مره وعندما وصل إلى مقر الخلافة في دمشق ورأى الخليفة ملامح التعب والإجهاد على وجهه، سأله: متى خرجت ؟ فقال: في شهر رمضان، فقال له عمر: قد صدق من وصفك بالجفاء !! هلا أقمت حتى تفطر، ثم تخرج .
3 ـ لاتعنت الناس ولا تعسرهم ولا تشق عليهم:
ذكر ابن سعد أن ـ ميمون بن مهران ـ وكان على ديوان دمشق، قال: ففرضوا لرجل زمِن ، فقلت: الزمن ينبغي أن يحسن إليه فأما أن يا خذ فريضة رجل صحيح فلا. فشكوني إلى عمر بن عبد العزيز، فقالوا له: إنه يتعنتنا ويشق علينا، ويعسرنا. قال: فكتب إلي: إذا أتاك هذا فلا تعنت الناس ولا تعسرهم، ولا تشق عليهم فإني لا أحب ذلك ، فكتب إليه عمر إنطلاقاً من مبدأ المرونة وتسهيل الأمور.
4 ـ المرونة في الحوار والتفاهم:
فقد كان الحوار الهادي ومقارعة الحجة بالحجة أسلوبه في حواره ومناظراته ـ كما مر معنا مع الخوارج ـ فقد حدث أن: دخل على عمر أناس من الحرورية، فذاكروه شيئاً، فأشار إليه بعض جلسائه أن يرعبهم، ويتغير عليهم فلم يزل عمر بن عبد العزيز يرفق بهم حتى أخذ عليهم، ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم مابقي فخرجوا على ذلك، فلما خرجوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه، فقال: يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك، دون الكي فلا تكوينه أبداً ، وأبدى مرونة في كافة أساليب التعامل معهم .
5 ـ المرونة الفكرية:
كان عمر يتحلى بالمرونة الفكرية، متجنباً الجمود والتشدد، فقد حدث ـ كما مر معنا ـ أن أرسل عمر يزيد بن أبي مالك، والحارث بن محمد، ليعلما الناس السنة وأجرى عليهم الأرزاق، فقبل يزيد ولم يقبل الحارث وقال: ما كنت لا خذ على علم علمنيه الله أجراً، فذكر ذلك لعمر، فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث . فلم يتخذ موقفاً محدداً تجاه العالمين، رغم إختلاف موقفهما تجاه قبول الأجر على تعليم الناس، فأيد أخذ الأجر على التعليم، وأنه لا بأس فيه، ثم دعا الله أن يكثر من أمثال الحارث، فاتضحت مرونته في تأييد الموقفين في آن واحد، رغم إختلافهما وياتي ذلك في إطار ماعبر عنه عن قناعته التامة، أن مبدأ المرونة مطلوب وضروري حتى قال: مايسرني لو أن أصحاب (محمد صلى الله عليه وسلم) لم يختلفوا، لا نهم لو لم يختلفوا، لم تكن رخصة . وقال: مايسرني بإختلاف أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، حمر النعم فهذه أدلة على تطبيق عمر لمبدأ المرونة في إدارته ولم تكن المرونة عائقاً لتنفيذ القرارات، وتحقيق الأهداف المرسومة، والوصول إلى المرامي والتطلعات .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق