1289
البداية والنهاية ( ابن كثير ) الجزء الثامن
وهذه صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب.
ثم جاء عابس بن أبي شبيب فقال: يا أبا عبد الله ! أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي منك، ولو قدرت أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد لي أني على هديك.
ثم مشى بسيفه صلتاً وبه ضربة على جبينه - وكان أشجع الناس - فنادى: ألا رجل لرجل؟ ألا ابرزوا إلي.
فعرفوه فنكلوا عنه، ثم قال عمر بن سعد: أرضخوه بالحجارة، فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، والله لقد رأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس بين يديه.
ثم إنهم عطفوا عليه من كل جانب فقتل رحمه الله، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدد، كل يدعي قتله، فأتوا به عمر بن سعد فقال لهم: لا تختصموا فيه، فإنه لم يقتله إنسان واحد، ففرق بينهم بهذا القول.
ثم قاتل أصحاب الحسين بين يديه حتى تفانوا ولم يبق معه أحد إلا سويد بن عمرو بن أبي مطاع الخثعمي، وكان أول قتيل قتل من أهل الحسين من بني أبي طالب علي الأكبر بن الحسين بن علي، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، طعنه مرة بن منقذ بن النعمان العبدي فقتله، لأنه جعل يقي أباه، وجعل يقصد أباه، فقال علي بن الحسين:
أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت الله أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي * كيف ترون اليوم ستري عن أبي
(ج/ص: 8/201)
فلما طعنه مرة احتوشته الرجال فقطعوه بأسيافهم، فقال الحسين: قتل الله قوماً قتلوك يا بني ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك محارمه؟ ! فعلى الدنيا بعدك العفاء.
قال: وخرجت جارية كأنها الشمس حسناً، فقالت: يا أخياه ويا ابن أخاه، فإذا هي زينب بنت علي من فاطمة، فأكبت عليه وهو صريع.
قال: فجاء الحسين فأخذ بيدها فأدخلها الفسطاط، وأمر به الحسين فحول من هناك إلى بين يديه عند فسطاطه، ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل.
ثم قتل عون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر، ثم قتل عبد الرحمن وجعفر ابنا عقيل بن أبي طالب، ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي: أن يزيد بن زياد وكان رامياً، وهو أبو الشعثاء الكناني من بني بهدلة، جث على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها على الأرض خمسة أسهم، فلما فرغ من الرمي قال: قد تبين لي أني قتلت خمسة نفر:
أنا يزيد وأنا المهاجر * أشجع من ليث قوي حادر
بربي إني للحسين ناصر * ولابن سعد تارك وهاجر
(ج/ص: 8/202)
قالوا: ومكث الحسين نهاراً طويلاً وحده لا يأتي أحد إليه إلا رجع عنه، لا يحب أن يلي قتله، حتى جاءه رجل من بني بداء يقال له: مالك بن البشر، فضرب الحسين على رأسه بالسيف فأدمى رأسه، وكان على الحسين برنس فقطعه وجرح رأسه فامتلأ البرنس دماً، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين.
ثم ألقى الحسين ذلك البرنس ودعا بعمامةٍ فلبسها.
وقال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد قال: خرج إلينا غلام كأن وجهه فلقة قمر، في يده السيف، وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى.
فقال لنا عمر بن سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه.
فقلت له: سبحان الله! وما تريد إلى ذلك؟ يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم.
فقال: والله لأشدن عليه، فشد عليه عمر بن سعد أمير الجيش، فضربه وصاح الغلام يا عماه.
قال: فشد الحسين على عمر بن سعد شدة ليث أعضب، فضرب عمر بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها من لدن المرفق فصاح ثم تنحى عنه.
وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمر من الحسين فاستقبلت عمر بصدورها وحركت حوافرها، وجالت بفرسانها عليه، ثم انجلت الغبرة، فإذا بالحسين قائم على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله، والحسين يقول: بعداً لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك.
ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك، صوت، والله كثر واتره وقل ناصره.
ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره، ثم جاء به حتى ألقاه مع ابنه علي الأكبر ومع من قتل من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وقال هانئ بن ثبيت الحضرمي: إني لواقف يوم مقتل الحسين عاشر عاشرة ليس منا رجل إلا على فرس، إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية، وعليه إزار وقميص، وهو مذعور يلتفت يميناً وشمالاً، فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض فرسه حتى إذا دنا من الغلام مال عن فرسه ثم أخذ الغلام فقطعه بالسيف.
قال هشام السكوني: هانئ بن ثبيت هو الذي قتل الغلام، خاف أن يعاب ذلك عليه فكنى عن نفسه.
قال: ثم إن الحسين أعيا فقعد على باب فسطاطه، وأتي بصبي صغير من أولاده اسمه عبد الله، فأجلسه في حجره، ثم جعل يقبله ويشمه ويودعه ويوصي أهله، فرماه رجل من بني أسد يقال له: ابن موقد النار بسهم فذبح ذلك الغلام. (ج/ص: 8/203)
فتلقى حسين دمه في يده وألقاه نحو السماء، وقال: رب إن تك قد حبست عنا النصر من السماء فاجعله لما هو خير، وانتقم لنا من الظالمين.
ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله أيضاً، ثم قتل عبد الله، والعباس، وعثمان، وجعفر، ومحمد بنو علي بن أبي طالب إخوة الحسين، وقد اشتد عطش الحسين فحاول أن يصل إلى أن يشرب من ماء الفرات فما قدر، بل مانعوه عنه.
فخلص إلى شربه منه، فرماه رجل يقال له: حصين بن تميم بسهم في حنكة فأثبته، فانتزعه الحسين من حنكة ففار الدم فتلقاه بيديه، ثم رفعهما إلى السماء وهما مملوءتان دماً، ثم رمى به إلى السماء وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على الأرض منهم أحداً، ودعا عليهم دعاء بليغاً.
قال: فوالله إن مكث الرجل الرامي إلا يسيراً حتى صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى ويسقى الماء مبرداً، وتارة يبرد له اللبن والماء جميعاً ويسقى فلا يروى بل يقول: ويلكم ! اسقوني قتلني الظمأ.
قال: فوالله ما لبث إلا يسيراً حتى انفذ بطنه انفداد بطن البعير، ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نحو من عشرة من رجالة الكوفة قبل منزل الحسين الذي فيه ثقلة عياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله.
فقال لهم الحسين: ويلكم !! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في دنياكم أحراراً وذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم.
فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يا ابن فاطمة، ثم أحاطوا به فجعل شمر يحرضهم على قتله.
فقال له أبو الجنوب: وما يمنعك أنت من قتله؟
فقال له شمر: إلي تقول ذا؟
فقال أبو الجنوب: إلي تقول ذا؟ فاستبا ساعة.
فقال له أبو الجنوب - وكان شجاعاً -: والله لقد هممت أن أخضخض هذا السنان في عينك، فانصرف عنه شمر.
ثم جاء شمر ومعه جماعة من الشجعان حتى أحاطوا بالحسين، وهو عند فسطاطه، ولم يبق معه أحد يحول بينهم وبينه، فجاء غلام يشتد من الخيام كأنه البدر، وفي أذنيه درتان فخرجت زينب بنت علي لترده فامتنع عليها، وجاء يحاجف عن عمه فضربه رجل منهم بالسيف فاتقاه بيده فأطنها سوى جلده.
فقال: يا أبتاه.
فقال له الحسين: يا بني احتسب أجرك عند الله، فإنك تلحق بآبائك الصالحين. (ج/ص: 8/204)
ثم حمل على الحسين الرجال من كل جانب وهو يجول فيهم بالسيف يميناً وشمالاً، فيتنافرون عنه كتنافر المعزى عن السبع، وخرجت أخته زينب بنت فاطمة إليه فجعلت تقول: ليت السماء تقع على الأرض.
وجاءت عمر بن سعد فقالت: يا عمر، أرضيت أن يقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟ فتحادرت الدموع على لحيته وصرف وجهه عنها، ثم جعل لا يقدم أحد على قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن: ويحكم ! ماذا تنتظرون بالرجل، فاقتلوه ثكلتكم أمهاتكم.
فحملت الرجال من كل جانب على الحسين، وضربه زرعة بن شريك التميمي على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو، ثم جاء إليه سنان بن أبي عمرو بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فذبحه وحز رأسه، ثم دفع رأسه إلى خولي بن يزيد.
وقيل: إن الذي قتله شمر بن ذي الجوشن.
وقيل: رجل من مذحج.
وقيل: عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وليس بشيء، وإنما كان عمر أمير السرية التي قتلت الحسين فقط. والأول أشهر.
وقال عبد الله بن عمار: رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه يحمل على من على يمينه حتى انذعروا عنه، فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل أولاده وأصحابه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله.
وقال: ودنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت له زينب: يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟ فبكى وصرف وجهه عنها.
وقال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن حميد بن مسلم قال: جعل الحسين يشد على الرجال وهو يقول: أعلى قتلي تحابون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله أسخط عليكم بقتله مني، وأيم الله إني أرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم الله لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.
قال: ولقد مكث طويلاً من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكن كان يتقي بعضهم ببعض دمه، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء مؤنة قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن: ماذا تنتظرون بقتله؟
فتقدم إليه زرعة بن شريك التميمي فضربه بالسيف على عاتقه، ثم طعنه سنان بن أنس بن عمرو النخعي بالرمح، ثم نزل فاحتز رأسه ودفعه إلى خولي.
وقد روى ابن عساكر في ترجمة شمر بن ذي الجوشن، وذو الجوشن صحابي جليل، قيل: اسمه شرحبيل.
وقيل: عثمان بن نوفل.
ويقال: ابن أوس بن الأعور العامري الضبابي، بطن من كلاب، ويكنى شمر بأبي السابغة.
(ج/ص: 8/205)
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق