1200
البداية والنهاية ( ابن كثير ) الجزء الثامن
ذكر من توفي فيها من الأعيان:
الحطيئة الشاعر
واسمه جرول بن مالك بن جرول بن مالك بن جوية بن مخزوم بن مالك بن قطيعة بن عيسى بن مليكة، الشاعر الملقب بالحطيئة لقصره. (ج/ص: 8/105)
أدرك الجاهلية وأسلم في زمن الصديق، وكان كثير الهجاء حتى يقال إنه هجا أباه وأمه، وخاله وعمه، ونفسه وعرسه، فمما قال في أمه قوله:
تنحي فاقعدي عني بعيداً * أراح الله منك العالمينا
أغرْبالا إذا استودعت سراً * وكانوناً على المتحدثينا
جزاك الله شراً من عجوزٍ * ولقاك العقوق من البنينا
وقال في أبيه وعمه وخاله:
لحاك الله ثمَّ لحاكَ حقاً * أباً ولحاكَ من عمٍ وخالِ
فنعمَ الشيخُ أنتَ لدى المخازي * وبئس الشيخُ أنتَ لدى المعالي
ومما قال في نفسه يذمها
أبتْ شفتايَ اليوم أن تتكلما * بشرٍ فما أدري لمن أنا قائله؟
أرى ليَ وجهاً شوّهَ الله خلقه * فقبحَ من وجهٍ وقبحَ حاملهْ
وقد شكاه الناس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأحضره وحبسه، وكان سبب ذلك أن الزبرقان بن بدر شكاه لعمر أنه قال له يهجوه:
دعْ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها * واقعدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي
فقال له عمر: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعماً كاسياً؟
فقال: يا أمير المؤمنين إنه لا يكون هجاء أشد من هذا، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله عن ذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين ما هجاه ولكن سلح عليه، فعند ذلك حبسه عمر وقال: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين، ثم شفع فيه عمرو بن العاص فأخرجه وأخذ عليه العهد أن لا يهجو الناس واستتابه.
ويقال: إنه أراد أن يقطع لسانه فشفعوا فيه حتى أطلقه.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحرامي، عن عبد الله بن مصعب، حدثني عن ربيعة بن عثمان، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: أمر عمر بإخراج الحطيئة من الحبس وقد كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأخرج وأنا حاضر فأنشأ يقول: (ج/ص: 8/106)
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ * زعب الحواصل لا ماء ولا شجر
غادرت كاسبهم في قعر مظلمةٍ * فارحم هداك مليك الناس يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه * ألقى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها * لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فامنن على صبيةٍ بالرمل مسكنهم * بين الأباطح يغشاهم بها القدر
نفسي فداؤك كم بيني وبينهم * من عرض واديةٍ يعمى بها الخبر
قال: فلما قال الحطيئة: ماذا تقول الأفراخ بذي مرخ، بكى عمر فقال عمرو بن العاص: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة.
ثم ذكروا أنه أراد قطع لسان الحطيئة لئلا يهجو به الناس فأجلسه على كرسي وجيء بالموس، فقال الناس: لا يعود يا أمير المؤمنين وأشاروا إليه قل: لا أعود.
فقال له عمر: النجا.
فلما ولى قال له عمر: ارجع يا حطيئة، فرجع فقال له: كأني بك عند شاب من قريش قد كسر لك نمرقة، وبسط لك أخرى.
وقال: يا حطيئة غننا، فاندفعت تغنيه بأعراض الناس.
قال أسلم: فرأيت الحطيئة بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر وقد كسر له نمرقة وبسط له أخرى.
وقال: يا حطيئة غننا فاندفع حطيئة يغني.
فقلت له: يا حطيئة أتذكر يوم عمر حين قال لك ما قال؟
ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء، لو كان حياً ما فعلنا هذا.
فقلت لعبيد الله: إني سمعت أباك يقول كذا وكذا فكنت أنت ذلك الرجل.
وقال الزبير: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال: قال عمر للحطيئة: دع قول الشعر.
قال: لا أستطيع.
قال: لم؟
قال: هو مأكلة عيالي، وعلة لساني.
قال: فدع المدحة المجحفة.
قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟
قال: تقول بنو فلان أفضل من بني فلان، امدح ولا تفضل.
فقال: أنت أشعر مني يا أمير المؤمنين.
ومن مديحه الجيد المشهور قوله:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم * من اللوم أوسدّوا المكان الذي سدوا
أولئك قومي إن بنوا أحسنوا البنا * وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها * وإن أنعموا لا كدروها ولا كدّوا
(ج/ص: 8/107)
قالوا: ولما احتضر الحطيئة، قيل له: أوص.
قال: أوصيكم بالشعر، ثم قال:
الشعر صعب وطويل سلّمة * إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه * والشعر لا يستطبعه من يظلمه
أراد أن يعربه فأعجمه.
قال أبو الفرج الجوزي في (المنتظم): توفي الحطيئة في هذه السنة.
وذكر أيضاً فيها وفاة عبد الله بن عامر بن كريز، وقد تقدم في التي قبلها.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق