25
عمر بن عبد العزيز ( معالم التجديد والاصلاح الراشدى ) على منهاج النبوة
الفصل الأول : معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من مولده حتى نهاية عهد الخلافة الراشدة
المبحث الثاني : الأمويون ومعاوية في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم:
ثانياً : في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
3 ـ معاوية في موكب عظيم وإنكار عمر عليه:
كان عمر رضي الله عنه ـ وهو الخبير بمعادن الرجال ـ يدرك أكثر من غيره ما يتمتع به معاوية من صفات تؤهله للقيادة، فحين قدم عمر الشام وافاه معاوية بموكب عظيم أنكره عليه عمر فقال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز. قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال له عمر: ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب ، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديب . قال: فمرني يا أمير المؤمنين قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه، فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جَشَّمناه ما جَشَّمناه ، وفي رواية أن الرجل الذي قال لعمر ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه هو عبد الرحمن بن عوف، وكان مع عمر حين استقبلهما معاوية بهذا الموكب العظيم . وهذا الجواب من معاوية ـ رضي الله عنه ـ يدل على خبرة سياسية عالية، ومعرفة واعية بأحوال الأمم، ودراية كاملة بسياسة الرعية والمحافظة على الوضع الأمني للدولة التي يحكمها، ومن أجل هذا رضي عمر سياسته على الرغم من أنها تخالف سياسة عمر في اهتمامه بأحوال رعيته وبحث شكاواهم، ولعل كلمة عمر ـ رضي الله عنه ـ من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه تدل على رضاه عن سياسة معاوية . وكان عمر رضي الله عنه يتعهد معاوية بالتربية والوعظ والنصح، وأحياناً يشتد ويغلظ عليه، فعن أسلم مولى عمر رضي الله عنه قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض أو أبضُّ الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه، فيعجب له، ثم يضع أُصبُعَه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشِّراك، فيقول: بخ بخ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، سأحدثك، إنّا بأرض الحمّامات والريف فقال عمر: سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك وذوو الحاجات وراء الباب. قال فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حُلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجّاً تَفِلاً، حتى إذا جاء أعظم بُلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما، فقال معاوية: إنما لبستهما لأدْخل فيهما على عشيرتي أو قومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، والله يعلم إني لقد عرفتُ الحياء فيه ثم نزع معاوية ثوبيه، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما ، وقال عمرو بن يحي بن سعيد الأموي، عن جَدِّه قال: دخل معاوية على عمر وعليه حُلَّةٌ خضراء فنظر إليها الصّحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدِّرَّة، فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين، الله الله فيَّ فرجع عمر إلى مجلسه، فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين وما في قومِك مثله؟، فقال: والله ما رأيت إلا خيراً وما بلغني إلا خير، ولكنِّي رأيته وأشار بيده ـ فأحببت أن أضع منه ، وكان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب . وكان معاوية رضي الله عنه في إمارته بالشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة وكان يرى أنه في ثغر تجاه العدو ويحتاج إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد وإظهار الملك والسلطان، وكان يرى أن الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين، ومراعاة المصالح وإنما ذمه لما فيه التغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات، فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله ولحمله على عبادة الله وجهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً ، وقد قال الله تعالى: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)) (ص ، آية : 33) لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك وكانت أبهة معاوية في الملك لها أغراض ومقاصد شرعية ولذلك سكت عمر رضي الله عنه، وذات يوم ذكر معاوية عند عمر فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرِّضا، ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه ، ومهما يكن في هذه الرواية وغيرها من مبالغة، فإن ثقة عمر في معاوية تظل فوق مستوى الشبهة والشك ، فقد برهن معاوية لعمر عمق فهمه لضرورات السياسة وتغير البيئة والمجتمع، وأثر ذلك كله على التطوير السياسي لأدوات الحكم، ومهما يكن من أمر فقد عظمت مكانة معاوية عند عمر رضي الله عنه، فولاه أهم أقاليم دولته، وزاد في ولايته، ولم يعزله، على كثرة من كان يعزل من عماله وأمرائه، وكان معجباً بذكائه وإدارته ولا يكتم ذلك الإعجاب حتى قال يوماً لجلسائه تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق