إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 27 مايو 2015

3555 البداية والنهاية ( ابن كثير ) ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة


3555

البداية والنهاية ( ابن كثير )

 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

فيها‏:‏ ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوي الجو بها واشتد هبوبها قد أثبت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صفقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار السماء والأرض عجاجاً‏.‏

حتى قيل إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها وادٍ، وعدا منها عادٍ، وزاد عصف الريح إلى أن أطفأ سرج النجوم، ومزقت أديم السماء، ومحت ما فوقه من الرقوم، فكنا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/18‏)‏

ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم لخطف الأبصار، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار‏.‏

وفر الناس نساء ورجالاً وأطفالاً، ونفروا من دورهم خفافاً وثقالاً، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، بوجوه عانية، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي‏.‏

ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعميت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون، وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون، إلى أن أذن بالركود، وأسعف الهاجدون بالهجود‏.‏

فأصبح كل مسلم على رفيقه، ويهنيه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأحياه بعد أن كاد يأخذه على غرة‏.‏

ووردت الأخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار، والأشجار في القفار، وأتلفت خلقاً كثيراً من السفار، ومنهم من فّر فلا ينفعه الفرار‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفاً والعلم مجوفاً، فالأمر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعظنا، ونبهنا بما فيه ولهنا، فما من عباده إلا من رأى القيامة عياناً، ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهاناً، إلا أهل بلدنا فما قص الأولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات‏.‏

والحمد لله الذي من فضله قد جعلنا نخبر عنها، ولا يخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحرص والغرور، ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور‏.‏

وفيها‏:‏ كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الإسلام، فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب‏.‏

هذه الأوقات التي أنتم فيها عرائس الأعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف، فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات‏.‏

وكتب أيضاً أدام الله ذلك الاسم تاجاً على مفارق المنابر والطروس، وحياه للدينا وما فيها من الأجساد والنفوس، وعرف المملوك من الأمر الذي اقتضته المشاهدة، وجرت به العافية في سرور، ولا يزيد على سيبه الحال بقوله‏:‏

ألم تر أن المرء تدوي يمينه * فيقطعها عمداً ليسلم سائره

ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الإصبع ظفراً فقد جلب إلى الجسد بفعله نفعاً، ودفع عنه ضرراً، وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما جلبه سبباً إلى المحمود، وآخر سنوه أول كل غزوه، فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها، وتجشم الكلف وحملها‏.‏

فهو إذا صرف وجهه إلى وجه واحد وهو وجه الله، صرف الوجوه إليه كلها‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/19‏)‏

وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك صلاح الدين للفرنج فأقبلوا بحدهم وحديدهم، فتلقاهم الملك العادل بمرج عكا فكسرهم وغنمهم، وفتح يافا عنوة ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد كانوا كتبوا إلى ملك الألمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله هلاكه سريعاً، وأخذت الفرنج في هذه السنة بيروت من نائبها عز الدين شامة من غير قتال ولا نزال، ولهذا قال بعض الشعراء في الأمير شامة‏:‏

سلم الحصن ما عليك ملامة * ما يلام الذي يروم السلامة

فتعطى الحصون من غير حربٍ * سنةٌ سنها ببيروت شامة

ومات فيها ملك الفرنج كندهري، سقط من شاهق فمات، فبقيت الفرنج كالغنم بلا راعٍ، حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس وزوجوه بالملكة امرأة كندهري، وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين العادل، ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم، ويقتل خلقاً من مقاتلتهم، ولم يزالوا كذلك معه حتى طلبوا الصلح والمهادنة، فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية‏.‏




 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق