3605
البداية والنهاية ( ابن كثير )
الحافظ عبد الغني المقدسي
ابن عبد الواحد بن علي بن سرور الحافظ أبو محمد المقدسي، صاحب التصانيف المشهورة، من ذلك الكمال في أسماء الرجال، والأحكام الكبرى والصغرى وغير ذلك، ولد بجماعيل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أسن من عميه الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، والشيخ أبي عمر، بأربعة أشهر، (ج/ص: 13/47)
وكان قدومهما مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح، خارج باب شرقي أولاً، ثم انتقلوا إلى السفح فعرفت محلة الصالحية بهم، فقيل لها الصالحية فسكنوا الدير، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن وسمع الحديث وارتحل هو والموفق إلى بغداد سنة ستين وخمسمائة، فأنزلهما الشيخ عبد القادر عنده في المدرسة، وكان لا يترك أحداً ينزل عنده، ولكن توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما.
ثم توفي بعد مقدمهما بخمسين ليلة رحمه الله، وكان ميل عبد الغني إلى الحديث وأسماء الرجال، وميل الموفق إلى الفقه واشتغلا على الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وعلى الشيخ أبي الفتح ابن المنى، ثم قدما دمشق بعد أربع سنين فدخل عبد الغني إلى مصر وإسكندرية، ثم عاد إلى دمشق، ثم ارتحل إلى الجزيرة وبغداد، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير، ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة.
قلت: وهو عندي بخط أبي نعيم. فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعاً، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفياً في إزار. ولما دخل في طريقه إلى الموصل سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضاً خائفاً يترقب، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فحصل له قبول من الناس جداً، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهزوا الناصح الحنبلي، فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه، حتى يشوش عليه فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر، فذكر يوماً عقيدته على الكرسي فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلساً في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين.
وتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول، ومسألة ا لحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد.
فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون فكان يقرأ الحديث بها فثار عليه الفقهاء بمصر أيضاً، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمهما الله.
قال السبط: كان عبد الغني ورعاً زاهداً عابداً، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة كورد الإمام أحمد، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريماً جواداً لا يدخر شيئاً، ويتصدق على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يرقع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضعف بصره من كثرة المطالعة والبكاء وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ.
قلت: وقد هذب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي كتابه الكمال في أسماء الرجال - رجال الكتب الستة - بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحواً من ألف موضع، وذلك الإمام المزي الذي لا يمارى ولا يجارى، وكتابه التهذيب لم يسبق إلى مثله، ولا يلحق في شكله فرحمهما الله، (ج/ص: 13/48)
فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظاً وإتقاناً وسماعاً وإسماعاً وسرداً للمتون وأسماء الرجال، والحاسد لا يفلح ولا ينال منالاً طائلاً.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق