إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 26 فبراير 2015

2731 سِيَرُ أعْلام النبَلاء ( الإمام الذهبي ) 251 - الطَّائِيُّ أَبُو الفُتُوْحِ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ



2731


سِيَرُ أعْلام النبَلاء ( الإمام الذهبي )

251 - الطَّائِيُّ أَبُو الفُتُوْحِ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ


الشَّيْخُ، الإِمَامُ، الصَّالِحُ، الوَاعِظُ، المُحَدِّثُ، أَبُو الفُتُوْحِ مُحَمَّدُ ابنُ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ الطَّائِيُّ، الهَمَذَانِيُّ، صَاحِبُ (الأَرْبَعِيْنَ) المَشْهُوْرَةِ.
وُلِدَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، بِهَمَذَانَ.
سَمِعَ: فَيْدَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّعرَانِيَّ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ حَمْدٍ الدُّونِيَّ، وَظرِيفَ بنَ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُوْرِيَّ، وَالأَدِيْبَ مُحَمَّدَ بنَ أَبِي العَبَّاسِ الأَبيوردِيَّ، وَإِسْمَاعِيْلَ بنَ الحَسَنِ السَّنْجَبَسْتِيَّ، وَعَبْدَ الغَفَّارِ بنَ مُحَمَّدٍ الشِّيرَوِيَّ، وَالعَلاَّمَةَ أَبَا المَحَاسِنِ الرُّويَانِيَّ، وَأَبَا القَاسِمِ بنَ بيَانٍ الرَّزَّازَ، وَشِيرويه الدَّيلمِيَّ، وَابْنَ طَاهِرٍ المَقْدِسِيَّ، وَمُحْيِي السُّنَّةِ البَغَوِيَّ، وَتَاجَ الإِسْلاَمِ أَبَا بَكْرٍ السَّمْعَانِيَّ، وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِمَا بِمَرْوَ.
قَالَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ: كَانَ يَرْجِعُ إِلَى نَصِيْبٍ مِنَ العُلُوْمِ؛ فِقهٍ، وَحَدِيْثٍ، وَأَدبٍ، وَوَعظٍ، حضَرْتُ وَعظَهُ بِهَمَذَانَ، فَاسْتحسنْتُهُ.
قُلْتُ: حَدَّثَ عَنْهُ: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ البَنَّاءِ الصُّوْفِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الحُسَيْنُ بنُ الزَّبِيْدِيِّ، وَأَخُوْهُ الحَسَنُ، وَأَبُو المُنَجَّا بنُ اللَّتِّيِّ، وَجَمَاعَةٌ سَمِعُوا مِنْهُ بِبَغْدَادَ.
تُوُفِّيَ: بِهَمَذَانَ، فِي شَوَّالٍ، سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
وَفِيْهَا مَاتَ: مُؤرِّخُ دِمَشْقَ العَمِيدُ حَمْزَةُ بنُ أَسَدٍ التَّمِيمِيُّ ابْنُ القَلاَنسِيِّ، وَحَمْزَةُ بنُ عَلِيِّ ابْنُ الحُبُوبِيِّ، وَالفَائِزُ عِيْسَى بنُ الظَّافرِ خَلِيْفَةُ العُبَيْدِيَّةِ وَلَهُ عشرُ سِنِيْنَ، وَأَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ المُقْتَفِي، وَالشَّيْخُ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الزَّبِيْدِيُّ الوَاعِظُ، وَأَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي بَكْرٍ البُخَارِيُّ الصَّابُوْنِيُّ، وَمَسْعُوْدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ الحُصَيْنِ الشَّيْبَانِيُّ، وَيَحْيَى بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّوْسِيُّ ابْنُ تَاجِ القُرَّاءِ، وَأَبُو المُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ ابْنُ التُّرَيْكِيِّ. (20/362)

252 - سَنْجَرُ بنُ مَلِكْشَاه بنِ أَلْبَ أَرْسَلاَنَ الغُزِّيُّ


السُّلْطَانُ، مَلِكُ خُرَاسَانَ، مُعِزُّ الدِّيْنِ سَنْجَرُ ابْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاه بنِ أَلب أَرْسَلاَن بنِ جغرِيبَك بنِ مِيكَائِيْلَ بنِ سَلْجُوْقٍ الغُزِّيّ، التركِي، السَّلْجُوْقِيّ، صَاحِب خُرَاسَانَ وَغَزْنَة وَبَعْض مَا وَرَاء النَّهْر.
خُطِب لَهُ بِالعِرَاقِ وَأَذْرَبِيْجَانَ وَالشَّامِ وَالجَزِيْرَةِ وَديَارِ بكر وَأَرَّان وَالحَرَمَيْنِ.
وَاسْمُهُ بِالعربِي: أَبُو الحَارِثِ أَحْمَد بن حَسَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ دَاوُدَ.
كَذَا قَالَ السَّمْعَانِيُّ، لَكِن قَالَ فِي أَبِيْهِ: حسن - إِنْ شَاءَ اللهُ -.
وُلِدَ: بِسِنْجَارَ مِنَ الجَزِيْرَة، فِي رَجَبٍ، سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، إِذْ تَوجّه أَبُوْهُ لِغزوِ الرُّوْم، وَنَشَأَ بِبلاَد الخوزِ، ثُمَّ سَكَنَ خُرَاسَانَ، وَتَديَّر مَرْو. (20/363)
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلِي نِيَابَةً عَنْ أَخِيْهِ السُّلْطَان بَرْكِيَارُوْق سَنَة تِسْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، ثُمَّ اسْتَقلَّ بِالملك فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَخَمْس مائَة.
قَالَ السَّمْعَانِيُّ: كَانَ فِي أَيَّامِ أَخِيْهِ يُلَقَّبُ بِالملك المُظَفَّر إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ أَخُوْهُ مُحَمَّد بِالعِرَاقِ، فِي آخِرِ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ، فَتسلطن، وَرِثَ الملك عَنْ آبَائِهِ، وَزَادَ عَلَيْهِم، وَملك البِلاَد، وَقهر العبَاد، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى أَكْثَر مَنَابِر الإِسْلاَم.

وَكَانَ وَقُوْراً حَيِيّاً، كَرِيْماً سخياً، مُشفِقاً، نَاصحاً لِرَعيَّتِهِ، كَثِيْر الصَّفْحِ، جَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الملك قَرِيْباً مِنْ سِتِّيْنَ سَنَةً.
قَال: وحكَى وَأَنَّهُ دَخَلَ مَعَ أَخِيْهِ مُحَمَّد عَلَى المُسْتظهر بِاللهِ، قَالَ: فَلَمَّا وَقفنَا ظَنَّنِي السُّلْطَان، فَافْتَتَحَ كَلاَمه مَعِي، فَخَدَمْتُ، وَقُلْتُ: يَا مَوْلاَنَا، هُوَ السُّلْطَان، وَأَشرتُ إِلَى أَخِي، فَفَوض إِلَيْهِ السّلطنَة، وَجَعَلنِي وَلِيّ عَهْدِهِ.
أَجَازَ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ المَدِيْنِيّ لسَنْجَر مَسْمُوْعَاته، فَقَرَأْت عَلَيْهِ بِهَا أَحَادِيْث، وَقَدْ ثقل سَمْعُهُ.
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: حَارب سَنْجَر الغُزَّ -يَعْنِي: قَبْلَ سَنَةِ خَمْسِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ- فَأَسَرُوهُ، ثُمَّ تَخَلَّص بَعْد مُدَّة. (20/364)
وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مِنْ أَعْظَمِ المُلُوْكِ هِمَّة، وَأَكْثَرهِم عَطَاء، ذكر أَنَّهُ اصطبح خَمْسَة أَيَّام مُتوَالِيَة، ذهب بِهَا فِي الجُود كُلَّ مَذْهَبٍ، فَبَلَغَ مَا وَهب مِنَ العَيْنِ سَبْع مائَة أَلْف دِيْنَار سِوَى الخلع وَالخيل.
قَالَ: وَقَالَ خَازِنُهُ: اجْتَمَع فِي خَزَائِنه مِنَ الأَمْوَال مَا لَمْ يُسْمَعْ أَنَّهُ اجْتَمَع فِي خَزَائِن ملك، قُلْتُ لَهُ يَوْماً: حَصَلَ فِي خَزَائِنك أَلف ثَوْب ديباج أَطلس، وَأُحبُّ أَنْ تَرَاهَا.
فَسَكَتَ، فَأَبرزت جَمِيْعهَا، فَحَمِدَ الله، ثُمَّ قَالَ: يَقبح بِمثلِي أَنْ يُقَالَ: مَال إِلَى المَال.
وَأَذِنَ لِلأُمَرَاء فِي الدّخول، وَفرَّق عَلَيْهِم الثِّيَاب.
قَالَ: وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنَ الجَوَاهِر أَلف رطل وَنَيِّف، وَلَمْ يُسْمَعْ عِنْد ملك مَا يُقَارب هَذَا.

قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لَمْ فِي يَزل فِي ازديَادٍ إِلَى أَنْ ظهرت عَلَيْهِ الغُزّ فِي سَنَةِ 548، وَهِيَ وَقْعَة مَشْهُوْرَة، اسْتُشْهِدَ فِيْهَا الفَقِيْه مُحَمَّد بن يَحْيَى، فَكسروهُ، وَانحل نِظَام ملكه، وَملكُوا نَيْسَابُوْر، وَقتلُوا خلقاً كَثِيْراً، وَأخذُوا السُّلْطَان، وَضَرَبُوا رقَاب عِدَّة مِنْ أُمَرَائِهِ، ثُمَّ قَبَّلُوا الأَرْض، وَقَالُوا: أَنْتَ سُلْطَاننَا.
وَبَقِيَ مَعَهُم مِثْل جندِي يَرْكُب اكديشاً، وَيَجوع وَقتاً، وَأَتَوْا بِهِ، فَدَخَلُوا مَعَهُ مَرْوَ، فَطَلَبَهَا مِنْهُ أَمِيْرُهُم بختيَار إِقطَاعاً، فَقَالَ: كَيْفَ يَصِيْر هَذَا؟! هَذِهِ دَار الملك.
فَصفَى لَهُ، وَضحكُوا، فَنَزَلَ عَنِ الملك، وَدَخَلَ إِلَى خَانْقَاه مَرْو، وَعملت الغُزّ مَا لاَ تَعْمَلُه الكُفَّارُ مِنَ العظَائِم، وَانضمت العَسَاكِر، فَمَلَّكُوا مَمْلُوْك سَنْجَرَ أَيَبَه، وَجَرَتْ مصَائِب عَلَى خُرَاسَانَ، فَبقِي فِي أَسرهِم ثَلاَث سِنِيْنَ وَأَرْبَعَة أَشْهُرٍ، ثُمَّ أُفلت مِنْهُم، وَعَاد إِلَى خُرَاسَانَ، وَزَال بِمَوْتِهِ مُلْكُ بَنِي سَلْجُوْق عَنْ خُرَاسَان، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَكْثَر مَمْلَكته خُوَارِزْم شَاه أُتْسِزُ بن مُحَمَّدِ بنِ نوشتكين، وَمَاتَ أُتْسِز قَبْل سَنْجَر. (20/365)
قَالَ السَّمْعَانِيُّ: مَاتَ فِي الرَّابِع وَالعِشْرِيْنَ مِنْ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وَدُفِنَ فِي قُبَّةٍ بَنَاهَا، وَسَمَّاهَا دَار الآخِرَة.
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: لَمَّا جَاءَ خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى بَغْدَادَ، قُطِعَت خُطبته، وَلَمْ يُعقد لَهُ عَزَاء.
قَالَ السَّمْعَانِيُّ: تسلطن بَعْدَهُ ابْن أُخْته الخَاقَان مَحْمُوْد بن مُحَمَّدِ بنِ بغرَاجَان.
قُلْتُ: وَقَدْ عَمِلَ فِي أَثْنَاءِ دَوْلَته مَصَافّاً مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ أَبَداً مَعَ كَافِر ترك، انكسر سَنْجَرُ فِيْهَا، وَقُتِلَ مِنْ جنده سَبْعُوْنَ أَلْفاً.

253 - أَبَقُ المَلِكُ المُظَفَّرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ بُوْرِي بنِ طُغْتِكِيْنَ


المَلِكُ المُظَفَّرُ، مُجِيْرُ الدِّيْنِ، أَبُو سَعِيْدٍ أَبَقُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ وَابْنُ صَاحِبهَا جَمَالِ الدِّيْنِ مُحَمَّدِ بنِ تَاجِ المُلُوْكِ بُورِي بنِ طُغْتِكِيْنَ البَعْلَبَكِّيُّ المَوْلِد.
تَملك بَعْد أَبِيْهِ وَهُوَ حَدَثٌ، وَدبر الدَّوْلَة أَنُر الطُّغْتِكِيْنِيّ وَالوَزِيْرُ ابْنُ الصُّوْفِيّ، فَلَمَّا مَاتَ أَنُر اسْتَقلَّ بِالملك مُجِيرُ الدِّيْنِ، ثُمَّ نَفَى الوَزِيْرَ إِلَى صَرْخَد، وَاسْتَوْزَرَ أَخَاهُ حَيْدَرَة مُدَّة، ثُمَّ قَتَلَهُ، وَقَدَّمَ عَلَى الجَيْش عَطَاء البَعْلَبَكِّيّ، ثُمَّ قَتَلَهُ، فَقصد نُوْر الدِّيْنِ دِمَشْق، وَعَامله أَهْلهَا، فَأَخَذَهَا بِالأَمَان، وَعوض مُجِيْر الدِّيْنِ بِحِمْصَ، فَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ أَمره نُوْر الدِّيْنِ بِالتَّحَوُّل إِلَى بَالِسَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، ثُمَّ تركهَا، وَقَدِمَ عَلَى الخَلِيْفَة، فَأَعْطَاهُ خُبْز سَبْعِيْنَ فَارِساً إِلَى أَنْ مَاتَ بِبَغْدَادَ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، كَهْلاً. (20/366)

254 - عَبْدُ المُؤْمِنِ بنُ عَلِيِّ بنِ عَلَوِيٍّ الكُوْمِيُّ


سُلْطَان المَغْرِبِ، الَّذِي يُلَقَّبُ بِأَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ، الكُوْمِيُّ، القَيْسِيُّ، المَغْرِبِيُّ.
مَوْلِدُهُ: بِأَعْمَال تِلِمْسَان، وَكَانَ أَبُوْهُ يَصنع الفخَار.
قِيْلَ: إِنَّهُ قَالَ - أَعنِي عَبْد المُؤْمِنِ -: إِنَّمَا نَحْنُ مِنْ قَيْس غَيْلاَن بن مُضَرَ بن نِزَارٍ، وَلكُومِيَة عَلَيْنَا حقُّ الولاَدَة، وَالمنشَأُ فِيهِم، وَهُم أَخوَالِي. (20/367)
وَكَانَ الخُطَبَاء إِذَا دَعَوا لَهُ بَعْد ابْنِ تُوْمَرْت، قَالُوا: قسيمه فِي النَّسَبِ الكَرِيْم.
مَوْلِده: سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
وَكَانَ أَبْيَضَ جَمِيْلاً، ذَا جِسْم عَمَمٍ، تَعلُوْهُ حُمْرَة، أَسود الشّعر، مُعْتَدِل القَامَة، جَهورِي الصوت، فَصِيْحاً جزل المنطق، لاَ يَرَاهُ أَحَد إِلاَّ أَحَبّه بَدِيهَة، وَكَانَ فِي كِبَرِهِ شَيْخاً وَقُوْراً، أَبيض الشّعر، كَثّ اللِّحْيَة، وَاضِح بيَاضِ الأَسْنَان، وَكَانَ عَظِيْمَ الهَامَة، طَوِيْل القعدَة، شثن الكَفّ، أَشهل العين، عَلَى خَدّه الأَيْمَن خَالٌ.
يُقَالُ: كَانَ فِي صِبَاهُ نَائِماً، فَسَمِعَ أَبُوْهُ دوياً، فَإِذَا سَحَابَة سَمْرَاء مِنَ النحل قَدْ أَهوت مُطْبِقَةً عَلَى بَيْتِهِ، فَنَزَلت كُلّهَا عَلَى الصَّبيّ، فَمَا اسْتيقظ، فَصَاحت أُمّه، فَسكنهَا أَبُوْهُ، وَقَالَ: لاَ بَأْسَ، لَكِنِّي متعجب مِمَّا تدل عَلَيْهِ، ثُمَّ طَارت عَنْهُ، وَقَعَدَ الصَّبيّ سَالِماً، فَذَهَبَ أَبُوْهُ إِلَى زَاجر، فَذَكَر لَهُ مَا جرَى، فَقَالَ: يُوشك أَنْ يَكُوْنَ لابنِكَ شَأْن، يَجتمع عَلَيْهِ طَاعَة أَهْل المَغْرِب.

وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ تُوْمَرْت قَدْ سَافر فِي حُدُوْدِ الخَمْس مائَة إِلَى المَشْرِق، وَجَالَس العُلَمَاء، وَتزَهَّد، وَأَقْبَلَ عَلَى الإِنْكَار عَلَى الدَّوْلَة بِالإِسْكَنْدَرِيَّة وَغَيْرهَا، فَكَانَ يُنفَى وَيُؤذَى، فَفِي رَجْعته إِلَى إِفْرِيْقِيَة هُوَ وَرفِيقُه الشَّيْخ عُمَر الهِنْتَاتِيّ صَادفَ عَبْد المُؤْمِنِ، فَحَدثه وَوَانسه، وَقَالَ: إِلَى أَيْنَ تُسَافر؟
قَالَ: أَطلب العِلْم.
قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ طَلِبَتَكَ.
فَفَقهه، وَصحبه، وَأَحَبّه، وَأَفضَى إِلَيْهِ بِأَسرَاره لِمَا رَأَى فِيْهِ مِنْ سِمَاتَ النّبل، فَوَجَد همته كَمَا فِي النَّفْس.
فَقَالَ ابْنُ تُوْمَرْتَ يَوْماً لخوَاصه: هَذَا غَلاَّب الدول. (20/368)

وَمَضَوا إِلَى جبل تِيْنمَلّ بِأَقْصَى المَغْرِب، فَأَقْبَل عَلَيْهِم البَرْبَر، وَكثرُوا، وَعَسْكَرُوا، وَشَقُّوا العصَا عَلَى ابْنِ تَاشفِيْن، وَحَاربوهُ مَرَّات، وَعظم أَمرهُم، وَكثرت جُمُوْعهُم، وَاسْتفحل أَمرهُم، وَخَافتهُم المُلُوْك، وَآل بِهِم الحَال إِلَى الاسْتيلاَء عَلَى المَمَالِك، وَلَكِن مَاتَ ابْنُ تُوْمَرْتَ قَبْل تَمكُّنِهِم فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وَكَانَتْ وَقْعَة البُحَيْرَة بِظَاهِر مَرَّاكُش بَيْنَ ابْن تَاشفِيْن صَاحِب المَغْرِب وَبَيْنَ أَصْحَاب ابْن تُوْمَرْت فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ، فَانْهَزَم فِيْهَا الموحدُوْنَ، وَاسْتَحَرَّ بِهِم القتل، وَلَمْ يَنج مِنْهُم إِلاَّ نَحْو مِنْ أَرْبَع مائَة مقَاتل، وَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ تُوْمَرْتَ، كتمُوا مَوْتَه، وَجَعَلُوا يَخْرُجُوْنَ مِنَ البَيْت، وَيَقُوْلُوْنَ: قَالَ المَهْدِيّ كَذَا، وَأَمر بِكَذَا، وَبَقِيَ عَبْد المُؤْمِنِ يُغِير فِي عَسْكَره عَلَى القرَى، وَيَعيشُوْنَ مِنَ النّهب، وَضَعف أَمرهُم، وَكَذَلِكَ اخْتلف جَيْش ابْن تَاشفِيْن الَّذِيْنَ يُقَالُ لَهُم: المُرَابِطُوْنَ، وَيُقَالُ: لَهُم الملثمُوْنَ، فَخَامر مِنْهُم الفلاَكِيُّ مِنْ كِبَارهِم، وَسَارَ إِلَى عَبْدِ المُؤْمِنِ، فَتلقَّاهُ بِالاحْتِرَامِ، وَاعتضد بِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْد خَمْسَة أَعْوَام، أَفصحُوا بِمَوْتِ ابْنِ تُوْمَرْت، وَلَقَّبُوا عَبْدَ المُؤْمِنِ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، وَصَارَت حُصُوْنُ الفلاَكِي لِلموحِّدين، وَأَغَارُوا عَلَى نوَاحِي أَغمَات وَالسوس الأَقْصَى، وَاسْتفحل بِهِم البَلاَء. (20/369)

وَقَالَ صَاحِب (المعجب) عَبْد الوَاحِدِ المَرَّاكُشِيُّ: اسْتدعَى ابْن تُوْمَرْت قَبْل مَوْته الرِّجَال المُسَمَّين بِالجَمَاعَة وَأَهْلَ الخَمْسِيْنَ وَالثَّلاَثَةَ عُمَر أَرتَاج، وَعُمَر إِيْنْتِي، وَعَبْدَ اللهِ بنَ سُلَيْمَانَ، فَحَمِدَ الله، ثُمَّ قَالَ:
إِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ، وَلَهُ الحمد - مَنَّ عَلَيْكُم أَيَّتُهَا الطَّائِفَة بتَأْيِيْدِه، وَخصكم بِحقيقَةِ تَوحيدِه، وَقيض لَكُم منْ أَلفَاكُم ضُلاَّلاً لاَ تَهتدُوْنَ، وَعُمياً لاَ تُبصرُوْنَ، قَدْ فَشت فِيْكُم البِدَع، وَاسْتهوتكُم الأَبَاطيل، فَهدَاكُم الله بِهِ وَنَصَركُم، وَجَمَعكُم بَعْد الفُرقَة، وَرَفَعَ عَنْكُم سُلْطَان هَؤُلاَءِ المَارقينَ، وَسَيُورِّثُكُم أَرْضَهُم وَدِيَارَهُم، ذَلِكَ بِمَا كسبت أَيدِيهِم، فَجَدَّدُوا للهِ خَالِصَ نِيَّاتِكُم، وَأَرُوهُ مِنَ الشّكر قَوْلاً وَفعلاً مِمَّا يُزكِي بِهِ سعيكُم، وَاحذرُوا الفرقَة، وَكونُوا يَداً وَاحِدَة عَلَى عَدُوّكُم، فَإِنَّكُم إِنْ فَعَلتُم ذَلِكَ، هَابكُمُ النَّاس، وَأَسرعُوا إِلَى طَاعتكُم، وَإِنْ لاَ تَفْعَلُوا شَمَلكُم الذُّلّ، وَاحتقرتكُم العَامَّة، وَعليكُم بِمَزجِ الرَّأْفَة بِالغلظَة، وَاللينِ بِالعُنفِ، وَقَدِ اخْترنَا لَكُم رَجُلاً مِنْكُم، وَجَعَلْنَاهُ أَمِيْراً بَعْدَ أَنْ بلونَاهُ، فَرَأَينَاهُ ثَبْتاً فِي دِيْنِهِ، مُتَبَصِّراً فِي أَمره، وَهُوَ هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى عَبْدِ المُؤْمِنِ - فَاسْمَعُوا لَهُ، وَأَطيعُوا مَا أَطَاع رَبّهُ، فَإِنْ بدل فَفِي المُوَحِّدِيْن بركَة وَخير، وَالأَمْر أَمر الله يُقلده مَنْ يَشَاء.
فَبَايَع القَوْمُ عَبْد المُؤْمِنِ، وَدَعَا لَهُم ابْن تُوْمَرْت. (20/370)
وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: مَا اسْتَخلَفَه، بَلْ أَشَارَ بِهِ.

قَالَ: فَأَوّل مَا أَخَذَ مِنَ البِلاَد وَهرَانَ، ثُمَّ تِلِمْسَان، ثُمَّ فَاس، ثُمَّ سَلاَ، ثُمَّ سَبتَة، ثُمَّ حَاصر مَرَّاكُش أَحَدَ عشرَ شَهْراً، فَأَخَذَهَا فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وَامتدّ ملكه، وَافتَتَح كَثِيْراً مِنَ الأَنْدَلُس، وَقصدته الشُّعَرَاء، وَلَمَّا قَالَ فِيْهِ التِّيْفَاشِيّ قَصيدَتَه:
مَا هَزَّ عِطْفَيْهِ بَيْنَ البِيضِ وَالأَسَلِ*مِثْلُ الخَلِيْفَةِ عَبْدِ المُؤْمِنِ بنِ عَلِي
أَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ يَقتصر عَلَى هَذَا المطلع، وَأَمَرَ لَهُ بِأَلف دِيْنَار، وَانقطعت الدعوَة العَبَّاسِيَّة بِمَوْت أَمِيْر المُسْلِمِيْنَ عَلِيّ بن تَاشفِيْن وَوَلَده تَاشفِيْن، وَكَانَتْ دَوْلَة تَاشفِيْن ثَلاَث سِنِيْنَ.
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي (المِرْآةِ): اسْتولَى عَبْد المُؤْمِنِ عَلَى مَرَّاكُش، فَقتل المُقَاتلَة، وَكفّ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَأَحضر اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى، وَقَالَ: إِنَّ المَهْدِيّ أَمرنِي أَنْ لاَ أُقرَّ النَّاس إِلاَّ عَلَى مِلَّة الإِسْلاَم، وَأَنَا مُخيِّرُكُم بَيْنَ ثَلاَث: إِمَّا أَنْ تُسلمُوا، وَإِمَّا أَنْ تلحقُوا بِدَارِ الحَرْب، وَإِمَّا القتلُ.
فَأَسْلَمَ طَائِفَة، وَلحقت أُخْرَى بِدَارِ الحَرْب، وَخَرَّب كَنَائِسهُم، وَعملهَا مَسَاجِد، وَأَلغَى الجِزْيَة، فَعل ذَلِكَ فِي جَمِيْع مَدَائِنِهِ، وَأَنفق بيوت الأَمْوَال، وَصَلَّى فِيْهَا اقتدَاء بعلِيٍّ، وَلِيُرِي النَّاس أَنَّهُ لاَ يَكنِزُ المَال، وَأَقَامَ كَثِيْراً مِنْ معَالِم الإِسْلاَم مَعَ سيَاسَة كَامِلَة، وَنَادَى: مَنْ تَركَ الصَّلاَة ثَلاَثاً، فَاقتلُوْهُ.
وَأَزَال المُنْكَر، وَكَانَ يؤم بِالنَّاسِ، وَيَتلو فِي اليَوْمِ سُبْعاً، وَيلبس الصُّوف الفَاخر، وَيَصُوْمُ الاثْنَيْنَ وَالخَمِيْسَ، وَيَقسم الفَيْء بِالشرع، فَأَحَبّوهُ. (20/371)

قَالَ عزِيز فِي كِتَابِ (الجمع): كَانَ عَبْدُ المُؤْمِنِ يَأْخذ الحَقّ إِذَا وَجب عَلَى وَلَدِهِ، وَلَمْ يَدع مشركاً فِي بِلاَده لاَ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِياً، فَجَمِيْع رعيته مُسْلِمُوْنَ.
وَقَالَ عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ عَلِيٍّ: وَزر لَهُ أَوَّلاً عُمَر أَرتَاج، ثُمَّ رفعه عَنِ الوزَارَة، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا جَعْفَرٍ أَحْمَد بن عَطِيَّةَ الكَاتِب، فَلَمَّا أَخَذَ بِجَايَة، اسْتكتب مِنْ أَهْلهَا أَبَا القَاسِمِ القَالمِي، ثُمَّ فِي سَنَةِ 53 قتل ابْنَ عَطِيَّةَ، وَأَخَذَ أَمْوَاله، وَاسْتَوْزَرَ عَبْد السَّلاَمِ الكُوْمِيّ، ثُمَّ قَتَلَهُ سَنَة سَبْعٍ، وَاسْتَوْزَرَ ابْنه عُمَر، وَوَلَّى قَضَاءهُ ابْن جَبَل الوهرَانِي، ثُمَّ عَبْد اللهِ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ المَالقِي، وَأَسَرَ يَحْيَى الصِّنْهَاجِيّ صَاحِب بِجَايَة، وَكَانَ هُوَ وَآبَاؤُه مِنْ بَقَايَا نوَاب بنِي عبيد الرَّافِضَّة، ثُمَّ أَحْسَن إِلَى يَحْيَى، وَصَيَّرَهُ مِنْ قوَاده، وَكَانَ عَبْدُ المُؤْمِنِ مُؤثراً لأَهْل العِلْمِ، مُحِباً لَهُم، وَيُجزل صِلاَتِهِم، وَسُمِّيت المصَامُدَّة بِالمُوَحِّدِيْنَ؛ لأَجْل خوض المَهْدِيّ بِهِم فِي علم الاعْتِقَاد وَالكَلاَمِ. (20/372)
وَكَانَ عَبْدُ المُؤْمِنِ رَزِيناً، وَقُوْراً، كَامِل السُّؤْدُد، سَرِيّاً، عَالِي الهِمَّة، خليقاً لِلإِمَارَة، وَاختلت أَحْوَال الأَنْدَلُس، وَتَخَاذل المُرَابِطُوْنَ، وَآثرُوا الرَّاحَة، وَاجترَأَ عَلَيْهِم الفِرَنْجُ، وَانْفَرَدَ كُلّ قَائِد بِمدينَةٍ، وَهَاجتْ عَلَيْهِم الفِرَنْجُ، وَطَمِعُوا.

فَجَهَّزَ عَبْد المُؤْمِنِ عُمَر إِينتِي، فَدَخَلَ إِلَى الأَنْدَلُسِ، فَأَخَذَ الجَزِيْرَة الخَضْرَاء، ثُمَّ رُندَة، ثُمَّ إِشْبِيْلِيَة وَقُرْطُبَة وَغَرْنَاطَة، ثُمَّ سَارَ عَبْد المُؤْمِنِ بِجُيُوْشه، وَعدَى البَحْر مِنْ زقَاق سَبْتَة، فَنَزَلَ جبل طَارِق، وَسَمَّاهُ جبل الفَتْحِ، فَأَقَامَ أَشْهُراً، وَبَنَى هُنَاكَ قُصُوْراً وَمدينَة، وَوَفَدَ إِلَيْهِ كُبَرَاء الأَنْدَلُس، وَقَامَ بَعْض الشُّعَرَاء مُنشداً:
مَا لِلْعدَى جُنَّةٌ أَوقَى مِنَ الهَرَبِ*أَيْنَ المفرُّ وَخيل الله فِي الطَّلَبِ؟
وَأَيْنَ يَذْهَب مَنْ فِي رَأْس شَاهقَةٍ؟ *وَقَدْ رَمَتْهُ سِهَام الله بِالشُّهب
حَدِّثْ عَنِ الرُّوْم فِي أَقطَار أَنْدَلُس*وَالبَحْرُ قَدْ ملأَ البَرَّيْنِ بِالعرب
فَأُعْجَب بِهَا عَبْد المُؤْمِنِ، وَقَالَ: بِمِثْلِ هَذَا يُمدح الخُلَفَاء.
ثُمَّ أَمَّر عَلَى إِشْبِيْلِيَة وَلده يُوْسُف، وَعَلَى قُرْطُبَة أَبَا حَفْصٍ عُمَر أَينتِي، وَعَلَى غَرْنَاطَة عُثْمَانَ وَلَدَه، وَقرر بِالأَنْدَلُسِ جَيْشاً كثيفاً مِنَ المصَامدَة وَالعرب وَقبَائِل بنِي هِلاَل، وَكَانَ قَدْ حَارَبَهُم مُدَّة، وَظَفِرَ بِهِم، وَأَذلهُم، ثُمَّ كَاتَبَهُم وَلاَطفهُم، فَخدمُوا مَعَهُ، وَخلعَ عَلَيْهِم، وَكَانَ دُخُوْله إِلَى الأَنْدَلُسِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِيْنَ، وَمِمَّا لاَطف بِهِ العربَ وَاسْتمَالَهُم قصيدَةٌ لَهُ، وَهِيَ:
أَقيمُوا إِلَى العليَاءِ هُوْجَ الرَّوَاحِلِ*وَقُودُوا إِلَى الهيجَاءِ جُرْدَ الصَّوَاهلِ
وَقُومُوا لِنَصْرِ الدِّيْنِ قَوْمَةَ ثَائِرٍ*وَشُدُّوا عَلَى الأَعْدَاءِ شَدَّةَ صَائِلِ
فَمَا العِزُّ إِلاَّ ظَهرُ أَجردَ سَابحٍ*وَأَبيضُ مَأْثُوْرٌ وَلَيْسَ بِسَائِلِ
بنِي العم مِنْ عَليَا هِلاَل بن عَامِرٍ*وَمَا جَمَعتْ مِنْ باسِلٍ وَابْنِ باسلِ

تَعَالَوا فَقَدْ شُدت إِلَى الغَزْو نِيَّة*عواقبُهَا مَنْصُوْرَة بِالأَوَائِل
هِيَ الغَزْوَة الغرَاء وَالموعدُ الَّذِي*تَنَجَّزَ مِنْ بَعْدِ المدَى المتطَاولِ
بِهَا نَفتح الدُّنْيَا بِهَا نبلغُ المنَى*بِهَا نُنْصِف التّحقيقَ مِنْ كُلِّ بَاطِلِ
فَلاَ تَتَوَانَوْا فَالبِدَارُ غَنِيْمَة*وَللمُدلِجِ السَّارِي صفَاءُ المنَاهلِ (20/373)
قَالَ عَبْدُ الوَاحِدِ المَرَّاكُشِيُّ: حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ:
أَن عَبْد المُؤْمِنِ لَمَّا نَزل سَلاَ - وَهِيَ عَلَى البَحْر المحيط، يَنْصبُّ إِلَيْهَا نَهْر عَظِيْم، وَيَمرّ فِي البَحْر - عَبَرَ النَّهْرَ، وَضُربت لَهُ خيمَة، وَجَعَلت جُيُوْشه تَعبر قَبيلَةً قبيلَةً، فَخر سَاجِداً، ثُمَّ رفع وَقَدْ بَلَّ الدمعُ لِحْيتَهُ، فَقَالَ: أَعْرف ثَلاَثَة وَرَدُوا هَذِهِ المَدِيْنَة، لاَ شَيْء لَهُم إِلاَّ رَغِيْفٌ وَاحِد، فَرَامُوا عبور هَذَا النَّهْر، فَبذلُوا الرَّغِيْف لِصَاحِب القَاربِ عَلَى أَنْ يُعَدِّي بِهِم، فَقَالَ: لاَ آخذُه إِلاَّ عَلَى اثْنَيْنِ.
فَقَالَ أَحَدهُم - وَكَانَ شَابّاً -: تَأَخُذُ ثِيَابِي وَأَنَا أَسبح.
فَفَعَل، فَكَانَ الشَّابّ كُلَّمَا أَعيَا، دنَا مِنَ القَاربِ، وَوَضَعَ يَده عَلَيْهِ يَسْتَرِيحُ، فَيَضرِبُه بِالمِجذَافِ، فَمَا عَدَّى إِلاَّ بَعْد جُهدٍ.
فَمَا شكَّ السَّامعُوْنَ أَنَّهُ هُوَ السَّابِحُ، وَالآخرَانِ ابْن تُوْمَرْت، وَعَبْد الوَاحِدِ الشَّرْقِيّ. (20/374)
قَالَ: ثُمَّ نَزل عَبْد المُؤْمِنِ مَرَّاكُش، وَأَقْبَلَ عَلَى البنَاء وَالغرَاس وَتَرْتِيْب ملكه، وَبسط العَدْل، وَبَقِيَ ابْنه عَبْد اللهِ بِبجَايَة يَشن الغَارَات عَلَى نَوَاحِي إِفْرِيْقِيَةَ، وَضَايقَ تُوْنُس، ثُمَّ حَاصرهَا مُدَّة، وَأَفسد مِيَاههَا، وَقطع أَشجَارهَا، وَبِهَا ابْن خُرَاسَان نَائِب صَاحِب صَقِلِّيَّة لُوجَار بن الدوقَة الرُّوْمِيِّ.

فَطَالَ عَلَى ابْنِ خُرَاسَان الحصَار، فَبَرَزَ، وَالتَقَى المُوَحِّدِيْن، فَهَزمهُم، وَقَتَلَ خلقاً مِنْهُم، فَبَعَثَ عَبْدُ اللهِ يَسْتَمد أَبَاهُ، فَتَهَيَّأَ فِي سَنَةِ 553 لِتُونس، وَأَقْبَلَ فِي جُيُوْشه حَتَّى نَازَلَهَا، فَأَخَذَهَا عَنْوَة، وَانْتَقَلَ إِلَى المهديَة وَهِيَ لِلنَّصَارَى لَكِن رعيَّتهَا مُسْلِمُوْنَ، فَطَالَ الحصَار لحصَانتهَا، يُقَالَ: عَرضُ سُورِهَا مَمَرُّ سِتَّة أَفرَاس، وَأَكْثَرهَا فِي البَحْر، فَكَانَتِ النّجدَات تَأْتِيهَا مِنْ صَقِلِّيَّة.
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: نَازل عَبْد المُؤْمِنَ المهديَة، فَبَرَزَ شجعَان الفِرَنْج، فَنَالُوا مِنْ عَسْكَره، فَأَمر بِبنَاء سور عَلَيْهِم، وَصَابرهَا، وَأَخَذَ سَفَاقِس وَطَرَابُلُس وَقَابِسَ، وَجَرَتْ أُمُوْرٌ وَحُرُوْب يَطول شرحُهَا، وَجَهَّزَ مَنِ افْتَتَحَ تَوْزَرَ وَبِلاَدَ الجرِيْدِ، وَطرد عَنْهَا الفِرَنْج، وَطهر إِفْرِيْقِيَة مِنَ الكُفْر، وَتَكمَّل لَهُ ملك المَغْرِب مِنْ طَرَابُلُس إِلَى السوس الأَقْصَى وَأَكْثَر مَمْلَكَة الأَنْدَلُس، وَلَوْ قصد مِصْر لأَخَذَهَا، وَلَمَا صَعُبت عَلَيْهِ.
وَقِيْلَ: إِنَّهُ مرَّ بِقَريتِهِ ليصلَ بِهَا ذَوِي رَحِمِهِ، وَيزور قَبْر أُمّه، فَلَمَّا أَطل عَلَيْهَا وَجُيُوْشه قَدْ ملأَت الفضَاء، وَالرَّايَات وَالبنُوْدُ عَلَى رَأْسه، وَضرب نَحْو مِنْ مائَتَيْ طبل، وَطُبولهُم كِبَارِ جِدّاً تُزعج الأَرْض، فَقَالَتْ عَجُوْز مِنْهُم: هَكَذَا يَعُوْد الغَرِيْبُ إِلَى بَلَدِهِ؟! وَصَاحَتْ بِذَلِكَ. (20/375)

وَلَمَّا دَخَلت سَنَة ثَمَانٍ وَخَمْسِيْنَ، أَمر الجَيْش بِالجهَاز لجِهَاد الرُّوْم، وَاسْتنفر النَّاس عَاماً، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ بِسلاَ، فَمَرِضَ، وَجَاءهُ الأَجَلُ بِهَا، فِي السَّابِع وَالعِشْرِيْنَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَة، وَارتجَّت المَغْرِب لِمَوْتِهِ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ وَلِيّ عَهْدِهِ ابْنه مُحَمَّداً، وَكَانَ لاَ يَصلح لطيشه وَجُذَامٍ بِهِ وَلِشُرْبِه الخَمْر، فَتَمَلَّكَ أَيَّاماً، وَخَلَعُوْهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَوليَة أَخِيْهِ يُوْسُف بن عَبْدِ المُؤْمِنِ، فَبقِي فِي الملك اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً، وَخلَّف عَبْدُ المُؤْمِنِ سِتَّةَ عَشَرَ وَلداً ذَكَراً.
قَالَ صَاحِب كِتَاب (الجمع): وَقفت عَلَى كِتَاب كَتَبَهُ عَنْ عَبْدِ المُؤْمِنِ بَعْضُ كُتَّابِهِ: مِنَ الخَلِيْفَة المَعْصُوْم الرضِي الزَّكِيّ، الَّذِي بشر بِهِ النَّبِيّ العربِي، القَامع لِكُلِّ مُجَسِّمٍ غَوِي، النَّاصِرُ لِدِيْنِ اللهِ العلِي، أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عَبْد المُؤْمِنِ بن عَلِيٍّ. (20/376)

255 - شَهْرَدَارُ بنُ شِيْرَوَيْه بنِ شَهْرَدَارَ بنِ شِيْرَوَيْه بنِ فَنَّاخُسْرُه الدَّيْلَمِيُّ


الإِمَامُ، العَالِمُ، المُحَدِّثُ، المُفِيْد، أَبُو مَنْصُوْرٍ ابْن الحَافِظِ المُؤَرِّخ أَبِي شُجَاع الدَّيْلَمِيّ، الهَمَذَانِيّ، مِنْ ذُرِّيَّة الضَّحَّاك بن فَيْرُوْز الدَّيْلَمِيّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
أَجَازَ لَهُ عَامَ مَوْلِدِهِ بِاعْتنَاء وَالِدِهِ: أَبُو بَكْرٍ بنُ خَلَفٍ الشِّيْرَازِيّ، وَأَبُو مَنْصُوْرٍ المُقومِيّ سَنَة 483.
وَسَمِعَ: أَبَاهُ، وَأَبَا الفَتْح عَبْدُوْس بن عَبْدِ اللهِ، وَمكِيَّ بن عَلاَّنَ السَّلاَّر، وَحَمْد بن نَصْرٍ الأَعْمَش، وَأَبَا مُحَمَّدٍ الدُّوْنِي، وَفَيْد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبَا بَكْرٍ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ زَنْجَوَيْه فَقِيْه زَنْجَان ذكر أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ (مُسْنَد الإِمَام أَحْمَد) فِي سَنَةِ خَمْسِ مائَةٍ، أَخْبَرَنَا الحُسَيْنُ الفَلاَّكِيّ، أَخْبَرَنَا القَطِيْعِيّ، وَسَمِعَ بِبَغْدَادَ.

حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُهُ؛ أَبُو مُسْلِمٍ أَحْمَدُ، وَأَبُو سَهْلٍ عَبْد السَّلاَمِ بن فَتْحَةَ السَّرْفُوْلِيّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ (الأَلقَاب) لِلشيرَازِي، وَأَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ، وَقَالَ: كَانَ حَافِظاً عَارِفاً بِالحَدِيْثِ، فَهماً، عَارِفاً بِالأَدب، ظرِيفاً خفِيفاً، لاَزِماً مسجده، متبعاً أَثر وَالِده فِي الحَدِيْثِ وَالسَّماع وَالطلب، رحل مَعَ أَبِيْهِ سَنَة خَمْسٍ وَخَمْسِ مائَةٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، كَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ يَجْمَع أَسَانِيْد كِتَابِ (الفِرْدَوْس) لِوَالِده، وَرتب ذَلِكَ تَرْتِيْباً حسناً عَجِيْباً، ثُمَّ رَأَيْت الكِتَابَ بِمَرْوَ سَنَة سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ فِي ثَلاَث مُجَلَّدَاتٍ ضَخْمَة وَقَدْ فَرغ مِنْهُ، وَهذَّبه، وَنقحه.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيْمِ الحَاجِيّ: تُوُفِّيَ شَهْرَدَار فِي رَجَبٍ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ. (20/377)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ المُؤَيَّدِ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بن فَتْحَةَ سَنَة ثَمَانِ عَشْرَةَ وَسِتّ مائَةٍ حُضُوْراً، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُوْرٍ شَهْرَدَار بن شِيْرَوَيْه الدَّيْلَمِيّ سَنَة 554، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عُمَرَ البَيِّعُ، أَخْبَرَنَا حَمِيْدُ بنُ مَأْمُوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيْرَازِيّ الحَافِظ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيْدٍ هُوَ عَبْدُ اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ محبور التَّمِيْمِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ اللهِ بن مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:

عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ، كَتَبَ كِتَاباً، فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي).
أَخْرَجَهُ: النَّسَائِيُّ، عَنْ شُعَيْبِ بنِ شُعَيْبِ بنِ إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ.
وَفِيْهَا مَاتَ: أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ قُدَامَة الزَّاهِد وَالِدُ الشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ، وَسَلاَمَة بن أَحْمَدَ بنِ الصَّدْر، وَعَبْد الرَّحْمَنِ بن أَبِي الحَسَنِ الدَّارَانِيّ بِدِمَشْقَ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ زَيْدِ بنِ الفَضْلِ الوَرَّاق، وَعَبْد المُؤْمِنِ صَاحِب المَغْرِب، وَكمَال بِنْت المُحَدِّثِ عَبْد اللهِ بن أَحْمَدَ بنِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، وَصَاحِب الإِنشَاء سديد الدَّوْلَة مُحَمَّد بن عَبْدِ الكَرِيْمِ ابْنُ الأَنْبَارِيّ عَنْ نَيِّف وَثَمَانِيْنَ سَنَةً، وَهِبَة اللهِ بن الفَضْلِ بنِ القَطَّان المَتُّوْثِيّ أَحَد الشُّعَرَاء وَلَهُ ثَمَانُوْنَ سَنَةً، وَشيخ الشَّافِعِيَّة بِاليَمَنِ أَبُو الخَيْر يَحْيَى بن سَالِمٍ العِمْرَانِيّ صَاحِب كِتَاب (البَيَانِ فِي المَذْهَب). (20/378)


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق