416
موسوعة الحروب الصليبية (4)الحملات الصليبية "الأيوبيون بعد صلاح الدين"
الفصل الثالث "عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب
المبحث الرابع:الجدل الثقافي بين المسلمين والنصارى في عهد الحروب الصليبية:
خامساً:أهم الشبه التي أثارها النصارى في عصر الحروب الصليبية:
1-دعوى خصوصية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالعرب:
مما يتحدث به النصارى قديماً وحديثاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي العرب خاصة وعلى ذلك قد شملهم رسالة الإسلام، وفي عصر الحروب الصليبية أثيرت هذه الشبهة وتصدى لها بعض العلماء المسلمين مفندين لها موضحين الحق في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ()، فقد ورد في رسالة لأحد كتاب النصارى موجهة إلى المسلمين في هذه الفترة : .. إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلينا، فلا يجب علينا اتباعه ()، حيث استدل هذا النصراني بآيات من القرآن إلى ما ذهب إليه منها قوله تعالى : "إنّا أنزلناه قرءاناً عربياً" (يوسف، آية: 3) وقوله " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" (إبراهيم، آية: 4) وقوله " وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه" (إبراهيم، آية:4) وقوله : " لتُنذر قوماً ما أتهم من نذير من قبلك" (الجمعة، آية:2).
وقوله" وأنذر عشيرتك الأقربين" (الشعراء، آية: 214) ثم قال هذا النصراني: لا يلزمنا إلا ما جاء بلساننا، وأتانا بالتوراة والإنجيل بلغتنا ()وكان رد القرافي على هذه الشبهة على النحو التالي:
أ- إن الحكمة من إرسال الرسل عموماً بألسنة أقوامهم ليكون ذلك أبلغ في الفهم بينه وبينهم حتى تقوم الحجة وتزول الشبهات ويحصل البلاغ، ليكون ذلك أدعى إلى فهم غيرهم ().
ب- أن هناك فرقاً بين قوله تعالى: "وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه" (إبراهيم، آية: 4) وبين أن يقال "وما أرسلنا من رسول إلا لقومه" فالقول الثاني هو المفيد لاختصاص الرسالة بهم لا الأول.
ج- أنه لو صح ما احتج به هذا النصراني من كون القرآن عربياً والنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم العربية فهو مرسل إلى العرب، لكان النصارى كلهم مخطئين في اتباع أحكام التوراة، فإنها نزلت بغير لسانهم، وكذلك القبط والحبشة ما علموا التوراة والإنجيل إلا كما يعلم الروم اللسان العربي بطريق التعليم ().
د- أنه وردت آيات كثيرة تدل على عموم الرسالة فإذا كان النصارى يعتقدون أصل الرسالة لكنها مخصوصة بالعرب، يلزمهم التعميم لهذه الآيات، كقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً" (سبأ، آية: 28) وقد بين بعض العلماء المسلمين المعنى الصحيح للآيات التي استدل بها هذا النصراني على خصوصية الرسالة للعرب، فكون القرآن باللغة العربية ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل بلسان قومه العرب لا يفهم منه اختصاص رسالته صلى الله عليه وسلم، حيث وضح كل من البغوي والرازي أن سبب إرسال الرسل بألسنة أقوامهم ليكون ذلك أدعى للفهم عنهم وأبعد عن الغلط ()، ثم قال البغوي : كيف هذا ؟ - أي إرسال النبيَّ صلى الله عليه وسلم بلسان قومه وقد بعث إلى كافة الخلق؟ قبل بعث من العرب بلسانهم والناس لهم تبع، ثم بث الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عز وجل، ويترجمون لهم بألسنتهم (). وبين الرازي أنه لا يفهم من قوله تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه"(إبراهيم ، الآية: 4) خصوصية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالعرب، وذلك للآيات الكثيرة الدالة على إرساله إلى الناس كافة، ولاحتمال أن المراد من – قومه – في الآية أي أهل بلده وليس أهل دعوته، ولأن التحدي بالقرآن، وقع لجميع الثقلين الإنس والجن ولم يكن للعرب خاصة، قال تعالى : "قل لئِن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" الأسراء، آية: 88) (). وقوله تعالى: "لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك" (القصص، آية: 46) لا يفهم منه خصوصية رسالته صلى الله عليه وسلم بالعرب الذين لم يأتهم نذير قبله، ولا يعني ذلك عدم إرساله لأهل الكتاب الذين جاءتهم الرسل، ففي تفسير قوله تعالى : "لتُنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم" (يس، آية: 6).
وبعد أن أورد الرازي هذه الشبهة وضح أن المراد بالآية أي: تنذر قوماً ما أنذروا بعدما ضلوا عن رسالة الرسول المتقدم فيدخل في ذلك اليهود والنصارى، لأن ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الخلق كافة () وأما قوله تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم" (الجمعة، آية: 2).
فبعد أن بين ابن الجوزي أن المراد بالأميين العرب نقل عن بعض العلماء في معنى الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى : "وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم" (الجمعة، آية: 3) فدلت الآية بذلك على عموم الرسالة وليس خصوصيتها للعرب دون غيرهم وبعد أن أورد الرازي احتجاج أهل الكتاب بهذه الآية على خصوصية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للعرب رد على ذلك بقوله: إنه لا يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه، ألا ترى إلى قوله تعالى : "ولا تخطه بيمينك" (العنكبوت، آية: 48) أنه لا يفهم منه أنه يخطه بشماله ()، وللآيات الدالة على عموم الرسالة كقوله تعالى: "كافة للناس بشيراً ونذيراً" (سورة سبأ، آية: 28)، ثم إن قوله تعالى: "وءاخرين منهم" (الجمعة، آية:3) أن المراد كل من دخل الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، فيكون المراد بالأميين العرب وبالآخرين سواهم من الأمم ()، ولا يدل قوله تعالى: "وأنذر عشيرتك الأقربين" (الشعراء، آية: 214).
على خصوصية الرسالة بهم دون سواهم، حيث وضح القرافي أن تخصيصهم؛ لكونهم أولى الناس بالدعوة لقرابتهم منه صلى الله عليه وسلم ()، وذكر الرازي أن تخصيصهم بالإنذار في هذه الآية بالإضافة إلى قرابتهم منه صلى الله عليه وسلم جاء أيضاً لعظم شركهم كتكذيبهم بالحشر الذي تجاوز كفر أهل الكتاب المكذبين بنبوته صلى الله عليه وسلم () وختم القرافي رده على استدلال هذا النصراني بهذه الآيات وما شابهها على خصوصية رسالة المصطفى صلى عليه بالعرب بقوله: فهذه الألفاظ ألفاظ لغتنا ونحن أعلم بها، وإذا كان عليه السلام هو المتكلم بها ولم يفهم تخصيص الرسالة ولا إرادته، بل أنذر الروم والفرس وسائر الأمم، والعرب لم تفهم ذلك، وأعداؤه من أهل زمانه لم يدعوا ذلك ولا فهموه، ولو فهموه لأقاموا به الحجة عليه، ونحن أيضاً لم نفهم ذلك فما فهمه إلا هذا النصراني الذي ساء سمعاً فسار إجابة ()، وخاطب القرطبي النصارى مبيناً أنه لا يسعهم أن يستدلوا ببعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويتركوا البعض الآخر، فيجب عليهم أن يقبلوا ما جاء به إذا قبلوا بعضه، وذلك باستدلالهم بهذه الآيات وما شابهها على خصوصية الرسالة، وهو القائل صلى الله عليه وسلم أنه مرسل إلى الناس كافة وقد ظهر صدقه في قوله ()وعّد ابن الجوزي هذه الدعوى من النصارى أنها من تلبيس إبليس عليهم وإلا فمتى أثبتوا لمحمد أصل صلى الله عليه وسلم أصل الرسالة والنبّوة، فإن النبيّ لا يكذب، وقد بين صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الناس كافة، وكتب إلى قيصر وكسرى وسائر ملوك الأعاجم ()وهكذا من خلال ما سبق لم يُبق العلماء المسلمون للنصارى ما يتعلقون به في دعواهم خصوصية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالعرب، فلم يبق لهم بعد ذلك إلا قبول الحق واتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم وترك العناد والمكابرة وانتحال الحجج ().
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق